كما كل الأطفال الذين يضحكون إذا ما ضحك الكبار من
حولهم، باسمة كنت أنقل النظرات بين وجوه الكبار المنشرحة من حولي، يومها أشرقت
الوجوه مثل أرض مسها المطر بعد طول انحباس بنور المولود "الذكر" والذي
أصبح بقدومه إلى الدنيا أخي، أمعنت فلم أجد أي ابتسامة محايدة، كلها كانت ضحكات
متطرفة تكشفت فيها الأسنان عن آخرها: خالتي بأسنانها المنتظمة كعقد من اللؤلؤ، جدي
بأسنانه المبعثرة مثل أثاث مقهى اندلع فيه شجار عنيف، جدتي بـ(سنها الذهب) الذي
يتوسط الفراغ كشاهد أخير على العصر، عندها فقط تعلمت أن اللحظة الوحيدة التي يتفق
فيها العدوان اللدودان الرجل والمرأة هي تلك التي يكون فيها المولود
"صبيا" !!
حرارة الدمعة الأولى، والإنتقال من عالم مظلم صامت نسكنه
أشهرا تسعة إلى عالم مضيء صاخب، يجعل البكاء الأول أشد علوا، أما عني فقد كانت
نبرة بكائي خفيفة إذا ما قورنت بنبرة أخي، إذ لم تكن تلك المرة الأولى التي يحرق
فيها الدمع المالح وجنتي؛ فعلى خلاف الخلق بكائي الأول كان في قوقعتي، عندما اخترق
بطن أمي صوت الطبيب المبشر بالأنثى ( بعد أن أكدت أشعة السونار عدم وجود أي علامة
فارقة بين قدمي ) وأجزم أن الوجوه أظلمت رغم أني لم أكن لأراها؛ فتلك هي البشرى
الوحيدة التي تسود فيها الوجوه!، تراقص صوت أبي في صمت الغرفة المكتظة قائلا بنبرة
المهزوم وليته لم يفعل "اللي من الله يا محلا" وكأنه يتلقى البلوى بصبر
رجل تقي !!
مرت سنواتي الأولى في "عتمة الأنوثة" والنفس
راضية مرضية، سلمت رأسي الصغيرة لقدر كتبني بخط باهت على هامشه، وظلت الدماء
الكثيفة تسري في شراييني بمنتهى الهدوء والتؤدة، إلى أن كان التحول الذي بدأ مع
تفكيكي لطلاسم الحروف، انزرعت بالساعات بين صفحات الكتب، قرأت عن السيدة العذراء وعن
مكانتها عند الله، والسيدة خديجة أولى الداخلين في الإٍسلام ذكورا وإناثا،
والكثيرات غيرهن، تخفف الدم في عروقي، وصار يعدو ثائرا، لما أيقنت أني نصف مجتمع،
ولست صنفا ثانيا، وأن الأغلال التي تلفني من كيد عقل صحراوي، وليست من صنع الدين
والقدر !
صارت الروح وكأنها طائر محفوف بجناحين لا يعرفان التعب،
وما عادت ترتضي بغير سابعة السماء فضاء، ولما دفعتني النشوة ذات ليلة إلى مصارحة
والدي برغبتي في دراسة الصحافة والإعلام على غرار نجمتي الكرتونية المفضلة
"ساندي بل" وذلك عندما كان يتناول عشائه بــ" شباحه" الأبيض
المعهود، توقفت اللقمة تحت خده الأيمن حتى صار مثل كرة عملاقة، ثم قال بعد أن نفث
ما نفث في وجهي "ما عناش بنات تراكض
لنصاص الليالي ورا الأخبار" !!
كانت تلك الصفعة الأولى التي وجهتها لي كف المجتمع
الذكوري الخشنة، إلا أن ظهري المشدود عوده بالوعي لم ينحن، بل ازداد صلابة
واستقامة، وهكذا علقت بصري بهدفي حتى لا تهالني الحواجر التي تعترض الطريق؛ فلا
بديل عن القمة؛ فالأكسجين هناك نقي، وقد مللت من تنشق الهواء الملوث، ففي الوقت
الذي تستعد فيه "سارة بالين" للانقضاض على كرسي الدولة الأولى في
العالم، ما تزال المرأة في إحدى الدول العربية تقاتل في سبيل الجلوس خلف مقود
سيارة!، لن أسلم لحياة كلاسيكية، أكون فيها زوجة مكسورة الخاطر، ازداد وزنها بعد
ما أنجبت، فطافت عين زوجها حول كل النساء إلا حولها، ولما لمح الحزن في عينيها
استرضاها بمناداتها "أم العيال" !!
وعلى حافة حياة ضيقة مشيت بحرص نحو القمة؛ فالهوة سحيقة
ذات اليمين وذات الشمال، وسكنة الأنثى في الشرق محسوبة عليها قبل حركتها، وبقليل
من الدهاء الأنثوي أقنعت والدي بضرورة استكمال دراستي الجامعية، وذلك عندما قلت له
بأن شروط الوجاهة لا تكتمل إلا عندما يصبح مناديا بالحاج اسماعيل ( أبو
الجامعيين)، اخترقت حاجز عناده من المكان الأضعف؛ فهو – أي والدي – مأخوذ بالوجاهة
الاجتماعية حد أدائه لفريضة الحج في العام الماضي حتى تصبح محلاته باسم محلات
الحاج اسماعيل بدلا من محلات اسماعيل (حاف) !!
لم أعمل بعد تخرجي من الجامعة، ولم أسهر حتى أنصاف
الليلي مطاردة الأخبار، وصنت الوعد الذي قطعته أمام والدي بأن لا أعمل بشهادتي،
بيد أني بدأت بإرسال المقالات إلى الصحف، وسرعان ما التفت حولي جماهير المقموعات
العريضة عندما ناصرت المرأة، كما أني هاجمت الفاسدين كثيرا، حتى صار أثخن شارب
يحسب لي ألف حساب خشية أن أسلط قلمي الحاد على رقبته !
أنا اليوم في أوج سعادتي، فسيرة حياتي التي ذكرتها فوق
لا تساوي مثقال ذرة مما أعيشه من سعادة في هذا اليوم ... فاليوم وضعت مولودي الأول
والذي كان بفضل الله "ذكرا" !!
صفحتي على فيسبوك الكاتب نادر أحمد