الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

الأسبوع الثاني والثلاثون - بدون لف أو دوران








    (نص ورقة الله يرضى عليك) تلك كانت الجملة الوحيدة المفهومة من كل الجمل التي كانت تتناثر في نطاق سمعي، فقد كان صوت المؤذن المنادي لصلاة المغرب طاغيا على كل  ما دونه من الأصوات، إلا أن سبب وضوح الجملة يعود لصوت مرددها النحاسي الأجش. سرى في جسدي ثعبان الفضول، التفت إلى الخلف، كان مسنا، في العقد الثامن أو السابع على احسن تقدير، يتكيء على عصا خشبية، كتفاه مائلتان إلى الأمام حتى تجاوزتا ذقنه، أبطأت الخطى حتى أحظى بنهاية المشهد، سلمه بائع اليانصيب النصف ورقة، ثم دس يده في جيبه مخرجا حزمة خضراء، قربها إلى عينيه الضعيفتين، ثم سحب ورقة أو إثنتين وناولهما البائع، ثم تابع سيره السلحفائي.

الأعمار بيد الله، قد يكون طفل لم يطفيء شمعته الأولى بعد توفي اثناء شراء المسن لورقة اليانصيب، فالموت لا يفرق بين طفل و كهل، إلا أنك بنظرة عابرة غير فاحصة لذلك المسن قد تشك في بقائه على قيد الحياة حتى آذان العشاء !!

تابعت المسير، فلا حاجة الآن لي إلى المشهد ولا حتى إلى سؤال الرجل المسن عما سيفعله بالجائزة الكبرى إن كانت من نصيبه، أكيد أنه لن يشتري بي إم دبليو، ولن يذهب في رحلة تسوق إلى لندن، الجواب معروف عندي سلفا ... سأتزوج ..، ستأسله : هل أنت بقادر على الزواج ياعم؟ سيجيب بـ(نعم ياعمي مش شايفني زي الحصان !!)، مع أن الإنسان في خريف العمر أبعد ما يكون عن الحصان صاحب القوائم الأربعة العضلية، وأبعد ما يكون حتى عن الآدمي العادي صاحب الساقين الممشوقتين، فهو بثلاث أرجل إثنان منها من عظم متداع هش، وواحدة من الخشب القابل للتسوس !! 

أطول قامة هي قامة الأمل، القلوب مهما شاخت وضعفت فيزيائيا فلا بد أن يكون فيها مكان أخضر، وفي هذا المكان يقيم الرجال جناننهم الوهمية ويشيدون القلاع والأبراج التي تنغز ذراها السماء، ويرسمون نساء افتراضيات طاغيات الحسن والإغراء، وإنهن نساء وليس إمرآة واحدة، لأن الرجل يتمنى لو كان من فوقه نساء ومن تحته نساء وإلى جانبيه نساء !!

  وللحقيقة، حتى أكون منصفا اكثر،ليست الجنات والقلاع والأبراج والأمجاد إلا طريقا إلى العدد الأكبر من النساء، فإذا خيرت رجلا بين مجموعة نساء جميلات وقصرعظيم فاره، لاختار القصر بخبث لعلمه أن ذلك القصرهو الطريق إلى مجموعة أكثر من النساء، أما لو خيرته بين النساء والقصر شريطة أن لا يحظى بأي إمرآة حتى نهاية حياته في حال اختياره القصر، فلن يتوانى عن اختيار النساء قائلا : أعطني النساء وهنيئا عليك القصر بما فيه !!

ذات يوم كنت وصديق لي في أحد الفنادق الفاخرة، كانت المائدة عامرة بما لذ وطاب من الأصناف، كنا منهمكين في الأكل بشهية منقطعة النظير، إلى أن مرت فتاة على ما يبدو أنها روسية، توقف صديقي عن الأكل ثم قال : ياه ... أجمل شيء في الدنيا النساء، وافقته الرأي بهزة رأس خفيفة، ثم أردفت:  بدليل إن الجالس الآن مع إمرآة داخل أي غرفة متداعية سقفها من الصفيح، خير مني أنا الجالس في هذا الفندق الفاخر ووجهي قبالة وجهك المغبر! ضحك صديقي وقال لي إحترمني قليلا بحق الحساب الذي سأدفعه، ضحكت قائلا: وهل كنت لتدعوني لأتناول العشاء على حسابك لو كان في حوزتك واحدة مثل تلك التي مرت بنا، نظر إلى الفراغ نظرة حالمة ثم قال: ياليت عندي مثلها وبقية حياتي خراب، لوعندي ألف نادر لاستبدلتهم بنصف واحدة مثلها، نزلت الرؤوس إلى الصحون ولم ينظر أحدنا إلى الآخر !!

لولا النساء، لما وصلت الفتوحات حتى الأندلس، فلما كان المسلم بين وعدين لا ثالث لهما الأول نصر وسبايا والثاني شهادة  وحور عين، حمحمت الخيول وشحذت السيوف وقطعت الفرسان البراري والصحاري !

لولا النساء لنام الرجال في بيوتهم و اكتفوا بساعتين من العمل، فالرجل لا يحتاج أكثر من قوت يومه، لكنه يركب الخطر، يصارع الثيران، يقاتل الأسود، يركض خلف سيارات الأجرة، (يتشعبط) على باصات مؤسسة النقل العام في سبيل الحصول على المال المؤدي إلى النساء !

لولا النساء لما كان الأرز المفضل لدي هو أرز (ابو بنت)، فقد كنت اعطي الأرز لأهل البيت وأخذ البنت !!

ولا أذكر أبدا أن أحدا من اصدقائي المتزوجين توقف عن ملاحقة النساء بنظراته مهما بلغ حبه لزوجته، ولما استفسرت عن سبب عزوف أحد الأصدقاء عن التردد إلى المكان الذي كنا نجتمع فيه على الدوام، قال لي أنه مأمور بغض البصر، وأن المكان مكتظ بالجميلات، فرحت كثيرا، لكنه سرعان ما أفسد فرحتي عندما استطرد قائلا : أتريديني أن استبدل هؤلاء اللواتي ينتظرن قدومي إلى الجنة بمجموعة من النساء الدنيويات !!

فلا تحزني أيتها المرآة، لا تتعجبي، لا تفكري، لا تتذمري، فقد خلق الله الرجل هكذا، إنه ليس بالخائن، ولكنها طبيعته، ولا تحسبي أن للرجل (ستايل) معينا من النساء، فلكل ساعة شطحاتها، افريقية، اسيوية، قوقازية، أنه مثل المقبرة التي لا ترد ميتا ! فهكذا خلق، ولم يخلق مثل ذكر الثعلب الذي يكتفي برفقة واحدة طيلة حياته، وإن ماتت ظل دون أنثى حتى الممات، ثم لنكن أكثر واقعية، ألم يكن الرجال على الدوام جسر عبورك إلى تحقيق حلم الأمومة، وما أن تنجب المرآة حتى تقول أولادي وأولادي وأولادي، وكأن الحمار الذي يصرف عليهم من الشارع، إذن هي مصالح متبادلة لا أقل ولا أكثر.

لذلك صبرا بنت حواء ... صبرا ..،

 صبرا على مراهقة الرجال، صبرا على شطحاتهم ومغامراتهم،

 أو كوني مثل أنثى الثعلب، تلك التي ما أن يموت زوجها حتى تقترن بغيره، أو ...

أو ...

أو ...

أو ... كوني مثل أنثى العنكبوت تلك التي تلتهم العنكبوت الذكر بعد التزاوج، حتى تعيشي بسلام أنت وأولادك بدون أب (نسونجي) !!


وفي النهاية لا يسعني إلا أن أحيي المطرب اللبناني فارس كرم عندما لم يكذب مثل البقية من الرجال وأعلنها صراحة في إحدى أغنياته وبالفم الملآن ( أنا شخصيا نسونجي ) !!



الأربعاء، 19 سبتمبر 2012

الأسبوع الواحد والثلاثون - في جوف الحوت






      بالتأكيد انك عرفته من العنوان قبل أن تراه في الصورة، إنه أكبر ما يدب على البر، إنه الديناصور الذي لا ينقرض، إنه الشيء الوحيد الذي إذا ما ابتلعك كنت في جوفه أكثر أمانا من خارجه، فكل مصطدم به خاسر، إنه باص مؤسسة النقل العام.

يتكون هذا المخلوق العظيم من جسد طويل وهو عبارة عن معدة مستطيلة الشكل قادرة على ابتلاع خمسين إلى مئة آدمي (حسب جشع السائق) وست عجلات سوداء عملاقة تساعده على الزحف من ضاحية إلى أخرى، أما الدماغ فهو على يسار مقدمة هذه المعدة، يجلس به السائق الذي يروض هذا العملاق.

يتغذى عظيم اليابسة هذا على فقراء الطرقات من الذكور والإناث من مختلف الأصول والمنابت، أردني ومصري وفليبيني وسيريلانكي في حالة تجسد التعايش السلمي بين مختلف الأديان والأعراق والألوان، يقوم باصطيادهم عن طريق (زامور) حاد لا يتناسب أبدا مع حجمه العملاق، وكأنه الفنان المصري علي الشريف بنبرة المغني السعودي جواد العلي، ما أن ينطلق هذا الزامور الحاد حتى يتم جذب انتباه الفريسة الآدمية، فتدخل طائعة عن طريق الفتحة الأمامية (الباب الأمامي) إلا إنه ولحسن الحظ لايهضم ما يبتلع، بل يكتفي بإخراج عدد من الآدميين من الفتحة الخلفية (الباب الخلفي) عند كل محطة حتى يتسنى له ابتلاع غيرهم في محطة اخرى.

رغم منظره المرعب إلا إنه أليف إلى أبعد الحدود، وكم تشعر بالزهو عندما ترسل إشارة خفيفة من يدك ليتوقف لك طائعا..، سبحان الله !!

في الداخل ألف حكاية وحكاية، فنظرة واحدة إلى الركاب كافية لرؤية الوجع الذي يستلقي على الوجوه، شباب في العشرينات تحسب أنه في خريف العمر، رجال في الخمسينات تحسبها مومياوات فرعونية، نساء تروي وجوههن ألف مأساة، أناس يغفون على المقاعد لفرط ما لاقوا من تعب يوم عمل قد تكون اجرته لا تزيد عن الثمان دنانير، ويتسع هذا الباص لحكايات وحكايات.

أنه مدرسة حياة..، فذات يوم صعدت إلى الباص، قال لي السائق عندما دخلت من الباب الأمامي، ادفع هنا ثم عاود النزول واصعد من الباب الخلفي، فهمت السبب، فالمقاعد ممتلئة، والرجال وقفوا في االخلف والنساء وقفن في الأمام، لقد كان السائق مثل هارون الرشيد محاطا بالفتيات من كل الأعمار والأشكال، أعطيته دينارا، فقال لي بأنه لا يملك أي (فكة)، بحثت في جيبي فلم أجد أي (فكة)، وهنا تقدمت فتاة وقالت للسائق (أنا عمو بدفع عنو) نظرت إلى الفتاة التي لا أعرفها، فقالت لي ( مو مشكلة لما بصير معك فكة بتعطيني) أخجلتني بلطفها، نزلت ثم صعدت من الباب الخلفي، ومشى بنا الباص، سألت عن فكة دينار، فانبرى أحد الشباب المصريين الطيبين وخض جيبه، فأخرج منها كمية وافرة من (الفكة)، أعطيته الدينار الورقي بعد أن أعطاني مثله من المعادن ثم زحفت إلى الأمام لأعطي الفتاة، سلمت النقود من يد إلى يد حتى تصل إلى الفتاة التي تقف في مقدمة الباص، وعندما وصلت النقود إلى يدها، نظرت قائلة (مو مشكلة عشو مستعجل؟) شكرتها لكنها لم تسمع فالضجيج كان يملأ الحافلة، مما اضطرني إلى الصراخ قائلا لها (شكرا كلك زوء)، فردت هي بكلمات لم أسمع منها شيئا، لكنني فهمت من ابتسامتها أنها كانت كلمات رد التحية.

 مشى الباص مرة أخرى، وكان السائق يلتقط كل من وقف على جانب الطريق، اكتظ الباص عن آخره، مما اضطر أحد الشباب إلى الصراخ قائلا  (شغل الكونديشين معلم انخقنا)، الرائحة في المقدمة عند النساء كانت رائحة (مكياجات) و(بودرات) وعطور صينية على الأغلب، لكنها على أي حال كانت أرحم من الرائحة التي كانت في الخلف عند الشباب فقد كانت رائحة (جربان) على كمون على زنجبيل على بهارات متعددة، حتى أن حاسة الشم عندي تعطلت عن العمل، ففي بعض المواقف تتعطل الحواس عن العمل خشية أن تصاب بالجنون لسرعة وعشوائية الإشارات القادمة !!

كنت أشاهد كيف تجتمع الفضيلة مع الرذيلة تحت سقف كابينة واحدة، فتلك الفتاة الطيبة التي دفعت عني في المقدمة هي الفضيلة، أما الرذيلة فكانت هي ذلك السائق الشرير الذي ما كان ليعبأ باختناق كبار السن والضعفاء بسبب الاكتظاظ الزائد عن الحد في سبيل تحقيق أعلى (غلة) ممكنة في هذه الرحلة المشؤومة !!

مضى الباص قدما، الشباب على حالهم، ذابلون، مختنقون، متعبون، ثلاثة أو أربعة شبان غالبهم النوم، لا أعتقد ان هناك من يستطيع النوم في مثل هذه الظروف، لكنني متأكد أنهم في حالة إغماء قد يكون سببها الرائحة، أو الحر الشديد، أو قلة الأوكسجين، بينما النساء في المقدمة يتحلقن حول السائق يضحكن، وجه السائق في المرآة يدل على أنه (منشكح) تماما، وعلى ما يبدو أنه كان يسرد لهن النكات  (نكات من العيار الثقيل)، حتى أن أحداهن نسيت نفسها وقامت بصفعه على كتفه، أكيد أنها كانت تقول (يخرب بيتك يا عمو شو دماتك خفاف) !!

استمر مسلسل التحميل والتنزيل، ولما كانت مجموعة من النساء يقفن على الرصيف، قام السائق بالدوس على المكابح، لكن فتاة تقف إلى جانب السائق قالت ( ان شا الله بدك تحملهم ؟؟) وهنا صاحت جميع الفتيات بغنج مصطنع ( لا اااااا عمو بليييييييييز)، ضحك السائق ثم تابع المسير، تلك (البليز) فعلت ما فعلت بالسائق، لأنه بعد ذلك دخل في صمت مطبق، كنت أراقب تعابير وجهه في المرأة، عيناه كانتا تذبلان شيئا فشيئا ... لقد كان يحلم !!

تناقصت حمولة الباص شيئا فشيئا، إلى أن جلس الجميع على المقاعد، بدوري بقيت في الخلف، يبدو أنني أدمنت، أو قد تكون حواسي التي تعطلت في بداية الرحلة ..، توقف الباص مرة أخرى، صعدت سيدة أربعينية، كنت انظر إليها، وهي تمشي نحونا، الغريب أن أحدا من الشبان لم يترك مقعده للسيدة، يبدو أن عادة ترك المقاعد للنساء قد انتهت، قررت أن أترك معقدي لتجلس عليه بدلا مني، لكن فتاة فليبينية تجلس أمامي فعلت ذلك، وفي هذا دلالة واضحة على أن منظومة الأخلاق الفليبينية تتفوق الآن على منظومة الأخلاق العربية !!

عشر دقائق ونصل، الكل يجلس في مقعده مطمئنا، لا أحد يقف باستثناء الفتاة الفليبينية التي تنازلت عن مقعدها لصالح السيدة الأربعينية، كنت أتوقع بأن يقول السائق (كلمة خير)، كان يقول : ( يا شباب حد يقعد هالبنت مكانو)، فهو الربان المسؤول،  لكن السائق كان في دنيا ثانية ...، لا زال يحلم !!

خمس دقائق ونصل، صعدت إمرأة أخرى، دفعت أجرتها، ثم نظرت عبر الممر باحثة عن كرسي شاغر، ولما ألتقت عينها بعيني، أومأت لها بأن تأتي كي تجلس مكاني ..،

جلست دونما أي كلمة شكر واحدة أو نظرة امتنان !!

لم أهتم، فقد اعتدت على قلة ذوق البشر، واكتفيت بالدعاء بأن يكون هناك مسمار على المقعد ..،
مسمار ؟؟

وهكذا رحت اتفقد بنطالي ولكن ولله الحمد لم يكن هناك أي ثقوب، فعدلت صيغة الدعاء بأن ينبت مسمار من المقعد.

نزلنا أخيرا، وسمعت فتاة عشرينية تقول لأمها : ( أوووف شو هالعزاب، الله يعين اللي بيركبو كل يوم)، لكن الأم المسنة التي على مايبدوأنها كانت تعاني من مشاكل صحية مؤخرا قالت لابنتها الشابة (على قلبي زي العسل، هالعزاب احلى من نومة المستشفى الخمس نجوم لحالك).

 في جوف الحوت كان هناك سائق جشع لا يعرف من الدنيا إلا تكويم النقود ولو كان هذا عن طريق تكويم البشر بغض النظر عن أعمارهم وأجناسهم وظروفهم الصحية، وفي جوف الحوت أيضا كان هناك فتاة تصرفت بفطرتها الطيبة غير أبهة بمجتمع أغلب شبانه من ذوي التفكير المريض، فقد يظن آخر أنها دفعت عنه لأنها أحبته من النظرة الأولى أو قد يردد قائلا (شو قصدها؟)، وفي الداخل أيضا كان هناك شاب مصري طيب اعطاني (الفكة) باسما، وفي جوف الحوت أيضا كان هناك فتيات خرجن إلى عمل بعيد في سبيل الحصول على المال الكافي لشراء (البودرات) و (المكياجات) والعطور الصينية، وفي جوف الحوت كان هناك رجال أغرقهم العرق كي ينالوا قوت يومهم، وفي بطن الحوت أيضا كان هناك أرملة خرجت إلى عمل بعيد في سبيل إطعام أولادها، وفي بطن الحوت كان هناك شابا يائسا بائسا، وعجوز قد كان وسيما في صباه لكن القهر والتعب حوله إلى مومياء، وفي جوف الحوت كان هناك فتاة فليبينية اخذت منا عادة تخلينا عنها، وفي جوف الحوت ايضا كان هناك شاب مقهور يدعوا بأن ينبت المسمار من المقعد ...،

ولكني لا زلت أفكر بالذي قالته السيدة المسنة أن الحياة في جوف الحوت مع البشر خيرا من الحياة في مستشفى من فئة الخمس نجوم  لوحدك .... 


www.osbo3yatjaber.blogspot.com


الأربعاء، 12 سبتمبر 2012

الأسبوع الثلاثون - أعراض جانبية





كلنا عرضة لأي سوء، قد تنتابك أعراض مرضية لم تختبرها من قبل؛ دوار، غثيان، رغبة في التقيؤ، تقول في نفسك " مجرد إجهاد، لن أكترث وسوف تذهب إلى حال سبيلها، غدا أكون على مايرام"، ولكن غدا لا يكون المروم، فالحال كما كان، بل أنه ازداد سوءا، إلا أنك قد تكابر اكثر وتمدد مهلة التعافي أسبوعا آخر، لكن الأسابيع لا تحمل أي إشارة تحسن، بل يزداد الحال سوءا، وعندما يبلغ الألم حدا لا يحتمل ..، تتحرك إلى الطبيب مسرعا، وفي الطريق إليه تهمهم بضيق ، الأن سيسألني عن عمري وطولي ووزني وعن تاريخي وتاريخ العائلة المرضي، سيعري نصفي الأعلى  (يا الله لقد كبرنا على التعري عند الأطباء) ثم يقول بصوته الرخيم (تمدد يا بني على السرير)  ثم تبدأ السماعة الباردة كما كانت دوما في الزحف فوق صدري، لكنني في هذه المرة سأطلب منه أن أسمع ما يسمع، سأحقق أمنيتي، فلطالما تمنيت عندما كنت طفلا أن أسمع ما يسمع الأطباء عبر تلك السماعة، فقد كنت دائما المسموع ولم أكن لمرة واحدة السامع..، كنت أتساءل دوما ...  ماذا يسمعون !!

قد يطلب منك صورا شعاعية ومغناطيسية، وأمورا ما أنزل الله بها من سلطان، لكنك تستحق كل هذا، فمن يخطيء فليستعد لدفع الثمن، وأكيد أنك فعلت أمرا ما أضر بعافيتك، قد يكون الإفراط في التدخين، قد يكون التفكير المستمر، قد تكون الأطعمة المكشوفة من على العربات المتجولة والثابتة، تحديدا (ساندويشة (الكباب) هذه الأخيرة، فقد كان منظر اللحم غير مطمئن، وكأنها قطط مسلوخة، إلا أنك لم تكن الوحيد هناك، فثمة شبان بعمر الورود كانوا يتحلقون حول العربة، وأنت لا ترى الآن أي واحد منهم يسلك طريقه إلى الطبيب كما تفعل أنت الآن !!

الحمد لله ... رد الطبيب جاء باردا، كما كانت السماعة (ألم يجدوا حلا لتدفئة هذه السماعة حتى الآن، فمنذ الطفولة حتى الآن وهي باردة؟)، لقد طمأنك بأن المشكلة بسيطة، مشكلة بسيطة في الأعصاب، يكتب لك الوصفة الطبية، ثم يودعك بقول "سلامتك"، ثم تودعك (السكرتيرة) هي الأخرى بعشرين دينار ثمن الكشفية !!

الدواء باهظ الثمن، مما يدفعك لقرأة النشرة المرفقة، وأول ما تقع عليه عيناك هو صفحة الأعراض الجانبية المكتوب عليها كالتالي:

 عادة ما تكون خفيفة إلى متوسطة غالبا دوار، صداع، إرهاق، نعاس، شعور بالغثيان، قيء زيادة الوزن، عصبية، أرق، اضطراب التوازن، حركات العين اللاإرادية وتشوش الإحساس، أحيانا يحدث وهن، رعشة، ألم في الظهر والعضلات، كسور أوديما الوجه، الأطراف أو الجسم كله، حكة جلدية، إضطراب الرؤية ( إظلام وازدواج الرؤية)، التهاب الأنف والبلعوم، سعال، اضطراب في الأسنان، التهابات في اللثة، تفكير غير متزن، اكتئاب، عسر التلفظ، ، عدم استقرار عاطفي، نادرا ما سجل حالات التهاب بنكرياس نزفي وأنماط من الحساسية، مثل ستيفنز جونز والحمامى المتشكلة، وأيضا سجلت حالات من السلوك العدائي وفرط الحركة عند الأطفال دون سن إثنى  عشر عاما، ازدياد الشهية، سلس بول، عجز جنسي، عسر الهضم، جفاف الفم، مسخن، مهلبية، كفتة بالطحين .. اكتبوا ستصبح (مصخرة) وانتهينا !!

تقول في نفسك: مستحيل، مستحيل أن أخذ هذا الدواء، علة واحدة خير من ألف علة، لو أصاب لا قدر الله  بنصف الأعراض أنفة الذكر، سأحتاج إلى طبيب نفسي، طبيب أسنان، أخصائي أنف أذن حنجرة، جلدية وتناسلية، باطنية ...، كم (سكرتيرة) ستأخذ مني عشرين دينارا، وأين وكيف؟ في هذه الحال، يجب أن أدعوا إلى اجتماع عاجل لــ(نقابة السكرتيرات) حتى يتسنى لي لقاؤهن دفعة واحدة !!

لكن الألم لا يتركك، فتقول في نفسك : حبة واحدة، لأجرب، لأغامر، أقرأ الشهادتين ثم ادفع الماء إلى جوفي بقوة، لكنك تستغفر الله على هذه الفكرة المجنونة..، أنها حياتك، أغلى ما تملك..، أنت الآن تتأرجح ما بين الألم وما بين احتمالية كارثة انسانية قد تحدث إذا ما تناولت هذا الدواء!

تذهب إلى الطبيب مرة أخرى، يتبسم في وجهك قائلا " ها ... كيف أصبحت" لكنك تدنو منه مترددا خجلا لتصارحه بموضوع الدواء ذي الألف عرض، يقهقه قليلا ثم يقول " هذه الأعراض تصيب أقل من واحد بالمئة من الناس"، فيأتي ردك سريعا (على أساس أنك حاذق)، ولماذا لا يكون هذا الواحد الذين تبحثون عنه هو أنا؟ فينظر إليك متعجبا بعد أن عدل من وضعية النظارات قليلا (وهو في الحقيقة يتمنى أن يصفعك ألف كف على خد واحد) ثم يقول : خذ الدواء يا بني وتوكل على الله ... توكل على الله ... لماذا قال ذلك !!  

الحمد لله، وضعك الآن طبيعي، وكل هذا أصبح سطورا من ذكريات، وها أنت الآن تمشي سليما معافى ...، وفي الطريق تصادف صديقا صغير السن، وبعد السؤال عن الأحوال والعمل، تلاحظ أن هناك انتفاخا خفيفا في عينه اليسرى، يتهرب من الإجابة المباشرة عن السبب، ولكنك بعد إلحاح، تعرف أن الصديق كان قد تعرض للضرب المبرح من قبل إخوان صديقته الحالية، تعود بك الذاكرة إلى أيام كنت فيها في مثل عمره، لم يحدث أن ضربت، لأنك كنت سريعا جدا في العدو ولين الجسم أثناء المراوغة، ولكن ربطا عجيبا يحدث ما بين نشرة الدواء ذي الألف عرض وبين الحادث الذي تعرض له صديقك الصغير، فهذا الشاب الذي أصيب بمرض الفراغ العاطفي خال أن الدواء قد يكون في حب أي فتاة، ولكنه نسي أن العلاج يكون مصحوبا بأعراض جانبية، تحديدا في المجتمعات العربية، فتتسأل في نفسك : لماذا لا يكون هناك نشرة أعراض جانبية  مرافقة لكل فتاة كأن تكون مثلا:

قد تظهر بعض الكدمات على وجهك بمعدل متفاوت اسبوعيا (حسب عدد القتلات)، فإذا كان لها من الإخوة اثنان (زينغو ورينغو) فستظهر الكدمات مرتين اسبوعيا، إذا كانوا ثلاثة (زعبور، فرفور،  شرشو) فأن الكدمات ستكون بمعدل ثلاث مرات اسبوعيا، قد تصبح شحاذا على أبواب الجوامع بــ(بربور) أخضر، ذلك أنها من النوع الذي يتردد على العرافات والسحرة، فتنال نصيبك من مختلف أنواع الحجب : وقف حال، وعدم التوفيق و ...، قد يصاب شرفك الرفيع بالأذى في حال الإفراج عن ابن عمها المحكوم بقضية (شرف)، ليكتشف فور خروجه أن الشرف أغلى ما يملك فــ................ !! 

لكن الغريب أنك لن تستغني عنها تماما مثل حبة الدواء ذات الأعراض الجانبية الألف .... 


www.osbo3yatjaber.blogspot.com

الأربعاء، 5 سبتمبر 2012

الأسبوع التاسع والعشرون - سيرة (تلفون)





       منذ زمان ليس بالبعيد، كان الهاتف الأرضي هو وسيلة الإتصال المباشر الوحيدة؛ بالذات هذا لأسود الذي تتوسطه بكرة معدنية أو بلاستيكية فيها الأرقام من صفر إلى تسعة، بحيث تضع إصبعك على الرقم المطلوب ثم تدير البكرة حتى نهاية الدائرة، ثم تنتظر حتى تعود البكرة إلى نقطة البداية، مكررا هذه الخطوة ست أو سبع مرات (حسب عدد خانات الرقم المطلوب) لتصل بالنهاية إلى وجهة اتصالك.

 وفي كثير من الأحيان كنت تجري تلك العملية التي قد تأخذ من الوقت أكثر من خمسة دقائق كي تجري محادثة هاتفية لأقل من دقيقة !  وفي احيان أخر كنت تنسى اسم الشخص المطلوب لطول العملية!،  لذلك فأنك في العديد من المرات كنت تفضل الذهاب إلى بيت الشخص المطلوب على أن تجري هذه العملية الطويلة !!

إلا أن ذلك لم يكن ليقلل من هيبة هذا الهاتف الذي لعب دورا إحتماعيا بارزا يتمثل في تعزيز الترابط والتآخي، فعلى سبيل المثال، عندما كنت تتلقى مكالمة هاتفية، غايتها الإطمئنان عن أحوالك، فأن ذلك كان يعني لك الكثير، ذلك أن المتصل قد احتمل ما احتمل في سبيل الوصول إليك؛ ست دورات كاملة ذهابا ووإيابا لهذا القرص الذي يشبه في بطء حركته إمرأة سمينة باردة القلب تقطع الشارع من أمام سيارتك دونما أي اكتراث لوجودك أو إيماءة تدل على الشكر لأنك أوقفت سيارتك كي تعبر، ناهيك عن حرص المتصل الإبقاء على مشاعره في حالة حياد تام، فأي إنفعال كأن يضحك ويندفع خطوة إلى الوراء قد يتسبب في انقطاع السلك القصير ليقع الهاتف من بعد ذلك ويتحطم، وأنت أيضا بدورك كنت تقف ثابتا محافظا على حياديتك، فأي حركة خاطئة قد تكلفك الكثير، كان الإحترام متبادلا، المتصل والمتلقي يقفان في وضع عسكري حتى إنهاء المكالمة !!  

هذا الهاتف الأرضي كان يشبه في هيبته مديرا عاما يستقر في كرسيه بكل هدوء وثقة، فدخوله بيتك لم يكن بالمجان، فقد كانت رسوم اشتراكه مرتفعة جدا، حتى أنك كنت تصبح حديث الجيران عندما كانوا يشاهدون وصول موكب الهاتف المهيب، هذا الذي يتضمن (بكب) وزارة المواصلات الأحمر والذي يكون في داخله فريق فني يعملون على توصيل الأسلاك من بيتك إلى عامود الهاتف الخشبي لمدة تصل أحيانا إلى أربع ساعات، وليس هذا فقط بل أن الهاتف الأرضي كان لاعبا رئيسا في سوق العقارات، فالمنزل الذي فيه هاتف أكثر قيمة من المنزل الذي ليس فيه هاتف .

وإلى جانب الإنتظار الطويل جدا والذي قد يصل إلى عامين أو أكثر في بعض الأحيان بعد تقديم الطلب لوصول حضرته إلى بيتك، ثمة انتظارات أخرى، مثل تلك التي كنت تنتظر فيها مكالمة من الحبيبة، عندما كنت تحرص على الجلوس في مدى قريب منه، كي يتسنى لك الرد عليها قبل أن يرد أخوك (الفساد) الصغير ويبلغ أباك لتصبح ليلتلك بيضا مسلوقا بالوحل، ولإنتظار الأمهات أمام الهاتف شجون اخرى، فعندما كان يسافر أحد الأبناء إلى الخارج، فأن الأم كانت تتسمر أمامه، داعية الله بأن يرن، حتى تطمئن على وصول ابنها بالسلامة، أما رنينه فقد كان له دلالات متعددة، فرنينه صباحا يعني أن المتصل سيكون إحدى خالاتك أو صديقات أمك، مما يتيح لك الفرصة للقيام بأي عمل كنت تنوي فعله دون علم أمك، ذلك أنها لن تفلت السماعة قبل آذان الظهر، أما رنينه ساعة الغروب فقد كان يدل على أن المتصل هو أبوك يسأل ما إذا ما كانت العائلة بحاجة إلى أي شيء، فتقوم أمك بدورها بقرأة اللائحة التي أعدتها منذ العصر؛ مشاو، فواكه، ايس كريم، كنافة، دواء للسعلة ... فتسمع صوت أبيك المضغوط عبر السماعة وهو يلعن الساعة التي دخل فيها الهاتف إلى البيت، لكن الغريب في الأمر أنه كان يعود إلى البيت محملا بكل الطلبات !!

 أما رنين الهاتف بعد منتصف الليل والعياذ بالله، فقد كان له الدلالة الأسوأ، حادث أو وفاة او أي مصيبة أخرى، وبالمناسبة فأن مخرجي الأفلام المصرية قد لعبوا على هذا الوتر كثيرا، فالمشهد الخالد في الذاكرة، هو ذلك المشهد عندما يتلقى أحدهم هاتفا مفاجئا، ليكون رد المتلقي ...

( ايه بتئول ايه ... امتى الكلام دة حصل ... مش ممكن )

ثم تسقط السماعة السوداء من يده بينما تشرع اليد الأخرى في زحزحة  ربطة العنق يمينا وشمالا، وفي ذلك إشارة للمشاهد أن البطل أصيب بنوبة قلبية، لينتقل المشهد بعد ذلك إلى المستشفى، حيث يركض أهل المصاب باتجاه الطبيب الذي يقف بدورة قائلا بصوت عميق :

 (شدو حيلكم)

فيقاطعه أهل المصاب :

 ( الشدة بالله يا دكتور)

فيرد الطبيب :

( احنا عملنا اللي علينا والباقي على ربنا) !!

وللهاتف الأرضي فضل وافر على البشرية وذلك من خلال الحفاظ على رشاقة الناس، ففي وقت كانت فيه ثقافة صحة الجسد شبه غائبة، وفي وقت لم تكن فيه مراكز اللياقة البدنية أو ما يعرف في أيامنا هذه بالــ (جيم)، فقد لعب الهاتف الأرضي دور مدرب اللياقة البدنية المنزلية، فكلما رن كنت تركض مسرعا إلى الغرفة التي كان يتربع فيها مثل ملك، والتي كانت على الأغلب غرفة نوم أمك وأبوك لتليق بمكانته نظرا لحساسية تلك الغرفة وأهميتها في كل بيت عربي (غرفة العمليات)، حتى أنك أحيانا كنت تركض من الحديقة إلى تلك الغرفة لأكثر من عشرة مرات في النهار الواحد، لأن أمك كثيرة الأخوات والصديقات، وبهذا فلا مجال لأي فائض من السعرات الحرارية لأن يبقى مخزنا في جسدك ! !

وللفقيد دور فاعل في رفع سوية منظومة الأخلاق من خلال المحافظة على الهدوء العام، فكلما ارتفع صوت التلفاز، صرخت امك بوجهك كي تخفضه، ليتسنى لها سماع أي رنين مباغت، وكلما علت أصوات الضحكات أثناء السهرات الصيفية في الحديقة، انتقلت أمك من حالة الابتسام إلى حالة العبوس في إشارة منها إلى تخفيف الوتيرة حتى يكون بالإمكان سماع أي رنين محتمل !!

مرت الأيام والسنين، وكأي ذي شأن رفيع، بدأت تحاك ضد الهاتف الأرضي المؤامرت والدسائس، وكان للمتآمرين ما أرادوا عندما ظهر هاتف أرضي جديد بلوحة أرقام عوضا عن البكرة، وبميزة جديدة تسمى (لاود سبيكر) والتي من خلالها يمكنك الحديث دونما سماعة، فصار التواصل أسهل، بينما قل الإحترام، فقد صار بإمكانك أن تتحرك قليلا أثناء التحدث عبر الهاتف، كما أن تقديرك للمتصل قل، ذلك أن عملية الإتصال صارت أسهل وأسرع  عن طريق لوحة الأرقام، أي أن المتصل لم يعان قبل الوصول إليك مثلما كان يعاني أيام البكرة التي كانت تدور ببطء المرأة السمينة التي تعبر الشارع !!

ألا أكلت يوم أكل الثورة الأبيض، قد يكون هذا لسان حال هاتف لوحة المفاتيح فور ظهور الهاتف اللاسلكي، فهاتف لوحة المفاتيح الذي أطاح بأسلافه (هواتف البكرات) غدا اليوم ضحية الهاتف اللاسلكي، وهذا الأخير قام بالتمهيد للعصر الجديد  (عصر الهواتف الخلوية)، فالمتصل بك الآن مشكوك في تقديره لك، فقد يكون مضطجعا على سريره حاملا هاتفه اللاسلكي بيد، عابثا بأصابع قدميه باليد الأخرى، كما أن الهدوء ما عاد مطلوبا، فالهاتف معك أينما كنت : في الحديقة، في المرآب، فوق السطح، داخل خزان الماء ...، كما بدأت السمنة بالشيوع، ذلك أنه لا ركض بعد اليوم إلى غرفة النوم، إلا أن الحسنة الوحيدة التي حملها هذا الهاتف هي أنك ما عدت مضطرا لرشوة أخيك الصغير بمبلغ (ربع ليرة) حتى يذهب إلى الدكان لشراء (اصبعين تويكس) حتى تخلوا لك الأجواء، فمكالمة الحبيبة صارت متاحة الأن من المطبخ، أو من فوق الشجرة ... أو حتى من الحمام !!

ثم كان التغير الجذري ... ثورة الخلويات، ومثل أي منتج جديد يكون حكرا على الميسورين، كذلك كان الهاتف الخلوي، فكلفته كانت تساوي ثمن سيارة مستعملة، غير أن فاتورة هاتفك كانت اعلى من فاتورة وقود سيارتك الشهري، والأدهى من ذلك أن المتلقي كان يدفع نصف المكالمة- أي أن الفاتورة كانت على المتصل والمتصل به - ثم أبتدأ التنافس، وذهبت الأسعار إلى انخفاض دائم، وصار بالإمكان لأي شخص اقتناء هاتف خلوي. ومرت ثورة الخلويات بمراحل عديدة: خلويات لها (أنتين) بحيث لا تتمكن من الحديث إلا عند رفعه مما يضطرك للنظر يمنة ويسرة للتاكد من خلو الشارع من المارة؛ فأي رفعة خاطئة للـ(أنتين) قد تقتلع عين أحدهم بسبب طول (الأنتين) الفارع، وخلويات بأحجام كبيرة، مثل نوكيا (شحاطة) هذا الذي كان يستعمل في المشاجرات كثيرا، لكفاءته في شج أي جمجمة يرمى عليها، ثم هواتف أصغر برنات أجمل (هارموني)، ثم هواتف بشاشات ملونة، ثم، ثم ... ألى أن وصلنا إلى جيل الهواتف الذكية أي فون وأخوته.

أنت الآن تحمل في جيبك عالما صغيرا، ملفات مسجلة، ملفات مصورة، ملفات فيديو، ألعاب للتسلية، وأكثر من ذلك بكثير، وكل ذلك موجود على جهاز لا يتجاوز بحجمه قبضة اليد الواحدة، تتصل بأي أحد من أقاربك عن طريق ثلاث نقرات وفي مدة لا تتجاوز ثوان معدودة يأتي الرد، بإمكانك أن تسجل اللحظات السعيدة في حياتك، وبإمكانك، وبإمكانك ... ياه هل نحن في الجنة يا "ستيف جوبز" !!

ياه كم تغير الهاتف ...

وبذلك أكون قد أنهيت سرد السيرة الذاتية للـ(تلفون) عليكم

قد يظن أحدكم أن أفكاري نضبت، وقد يلعن آخر الساعة التي دخل فيها المدونة، فبعد أن تعطل لعشر دقائق أو اكثر لقرأة الإدراج، يجد نفسه متورطا في قرأة سيرة ذاتية لهاتف، إلا أنني عندما قررت الخوض في تجربة جديدة  (كتابة سير ذاتية)، لم اجد أي شخص معاصر يستحق ذلك، فارتأيت أن أكتب عن سيرة (التلفون) الذاتية، وهل تنكرون أن شغف الهواتف الخلوية صار اليوم أكثر من قلق الناس على بعضها بعضا، قد يتشاجر معك أحدهم، لتدوم القطيعة إلى ما لا نهاية، وقد لا يأسف عليك ولو حتى بتنهيدة واحدة، أما إذا ضاع الهاتف ... فقد يذرف الدمع !!

زمان كانت الناس مقامات، لكن الحال تبدل الآن وصارت الأشياء مقامات، والناس صارت جزءا من هذه الأشياء، لذلك اردت أن أزين مدونتي بالسيرة الذاتية لهذا الشيء العظيم ...

www.osbo3yatjaber.blogspot.com