الأربعاء، 26 نوفمبر 2014

الأسبوع الثاني والأربعون - مباراة اعتزال





   


    


    صادقت الجدران، والكتب، وآلة موسيقية مؤلفة من ستة أوتار، لم يحدث أن اشتكى أحد الجدران الغليظة من انشغالي عنه مثلما فعلت دائما نسائي الرقيقات، الكتاب الثقيل الذي – على طريقة جدتي - حاول ملء رأسي بالخرافات والأساطير، رميته بعيداً وبدلته بآخر موضوعي خفيف، لم تمتنع آلتي الموسيقية عني ليلةً بحجة التعب، أو تقاعست كلما بدا لها عزم أصابعي على مداعبة أوتارها !!

لا يفرق بيني وبين رفقتي المثالية إلا واقعية الحياة التي تتطلب مني الخروج في السعي خلف الرزق، وهناك، أي في العمل، ينبغي علي أن أتخلى عن أربع حواس، وأتحول إلى أذن صاغية إلى مديرتي المباشرة، المومياء المتصابية، دائمة الشكوى من كثرة الرجال المتوددين إليها، طالبي القرب غير الشرعي، إلا أنها، على حد زعمها، دائمة الرفض وبشكل قاطع مجرد الحديث إليهم خارج إطار العمل، ذلك أن زكي زوجها أو (زيكو) كما تحب أن تناديه، كفته ترجح على رجال الدنيا إن اجتمعوا في الكفة الثانية ..، وأنا الذي أعرف تمام المعرفة، أن زواجهما أصيب بالخرس منذ سنين، وعلى اطلاع يومي على آخر تحديثات حساب (زيكو) المستعار على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، والتي تكون في غالبيتها أبيات من الشعر الركيك في محاولات منه لاصطياد مراهقات في عمر حفيداته يعانين فراغا أبويا !!

أحياناً يضيق صدري بأحاديثها عن المسيو "جان بيير" مدير الوفد الفرنسي الذي لم يرفع عينه عنها، او مستر "آدم" نائب السفير البريطاني الذي على حد زعمها حاول الاحتكاك بها جسدياً أثناء وقوفه خلفها في طابور البوفيه المفتوح، وهنا يندفع الغيظ إلى حنجرتي حتى يكاد السؤال الوجودي الذي لطالما أرقني أن يفلت من فمي " أين رآك هؤلاء المتوددون حتى تثيري إعجابهم ؟ "، ذلك أن أحداً لم يرها إلا الله، فهي كتلة من (المكياج) يقال أن بداخلها إمرأة !، ولكنني سرعان ما أكظم غيظي، وأكتفي بهزة خفيفة من رأسي، في إشارة إلى موافقتي على جميع ما تقول لأن (الرزق يحب الخفية) !!

وفي الساعة الأخيرة من العمل، يتعين علي أن أقوم بعمل "شيك ان" لموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" وأن أضغط اعجابا على كل الأنشطة الحديثة – وما أكثرها – التي قامت المومياء بنشرها ، سواء كان منشورا كتابيا تقول فيه " أغسل يدي"، أو "أتأمل سقف غرفتي الآن"، أو إذا كان المنشور صورة تجمعها بــ(زيكو) في حفل زفاف أو سهرة ما، تنام فيها على كتفه بدلال زائد حتى ينقص الظن في قلوب المشككين بأن علاقتهما الزوجية مصابة بالخرس، وأنهما ليسا في عيون بعضهما مجرد قطعتي أثاث من ديكور منزلهما، كما يتعين علي تفنيد كل التعليقات التي تتذيل الصورة، ومن باب (الرزق يحب الخفية) أقوم بالضغط على "أعجبني" على كل واحد منها محتواه التملق والإطراء الزائد، تعليقات معلبة أو "كلاشيهات" جاهزة من مثل (الله يحماكن) وبالمناسبة لا أدري من أين جاءت موضة (يحماكن) وأنا الذي عرفتها طوال عمري (يحميكم)، او (مش معئول شو لايئين لبعض)، ولكن للأمانة، فأنا عندما أضغط أعجبني على هذا التعليق الأخير، فإنه يكون من صميم القلب، لأنهما فعلاً يليقان ببعضهما ؛ فما أشبهها بالمومياء وما أشبهه بفرعون "رمسيس الثاني" !!

وفي الذهاب إلى العمل كما في االإياب، أصعد حافلة النقل العام، أتجنب المقاعد المزدوجة حتى لا يشاركني المقعد أحد المتطفلين الذي يضع عيناً على الفتاة التي تجلس في المقعد المفرد المحاذي لمقعدنا، وعيناً أخرى على هاتفي تشاركني تصفح حسابي الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي ! وإن كان من المتقدمين في السن الذين ضعف بصرهم عن استراق النظر إلى الفتيات و هواتف الآخرين، فأنه سرعان ما (يتحرقص) لبدء حديث ما يبدأ عادة عن الطقس " والله هواها بارد اليوم"، ثم ينفرط عقد الحديث وتتوالى المواضيع الواحد تلو الآخر، بدءءا بسقوط الاتحاد السوفييتي مروراً بالحديث عن زمانهم (زمن البركة) عندما كانت حبة الزيتون تعادل في حجمها حبة الباذنجان، وانتهاءً بالفرص التي فرط فيها مثل العشر دونمات التي عرضت عليه في شارع الجاردنز مقابل عشرين (راس حلال)، ولست أدري على من تحديداً عرضت هذه الدونمات العشرة، على جدي، أم على جارنا "ابو يعقوب" أم على عامة الشعب، ولماذا لم يتبرع صاحبها بها إلى إحدى الجمعيات الخيرية، مادام القرف منها وصل به حد بيعها بـــ(دينار وخمسة واربعين قرش للدونم) أو مقايضتها كاملة بعشرين (راس حلال) !!

المناسبات االإجتماعية تثقل على قلبي، ولكني لا أستطيع التخفف منها إكراماً لشيبة والدي الذي يحب أن يفاخر بولده الناس؛ فالإنجاز اليتيم للرجل الشرفي في هذا الزمن هو (الخلفة) !، وهكذا تجدني لا أهنأ بإجازة يوم جمعة أو ليلة خميس، وفي شهور الصيف تحديداً (موسم التزاوج العربي) تحملني قدماي من جاهة إلى خطبة إلى عرس، وللجاهات حكاية أخرى؛ فكبير العائلة الخرف، دعاني إلى الجلوس بجانبه دوناً عن الجميع، ثم سألني السؤال ذاته الذي طرحه علي في خمسين مناسبة سابقة "انتة ابن مين؟"، وبعد أن عرف"أنا ابن مين؟"، حدثني عن الفخذ الذي انحدر منه، ثم عاود الصعود على شجرة العائلة ذات الحسب والنسب والعراقة الضاربة جذورها في تربة التاريخ، وهنا جالت عيناي في المكان حتى كادتا تغادرا محجريهما لتتفرسا في وجوه القوم الجالسين حولي، وهم من عائلتي، أي من شجرة العراقة الضاربة جذورها في التاريخ، ثم عاودتا الاستقرار في محجريهما خائبتين لما وجدت أن الوجيه فيهم يساوي (شلن) في أحسن حال، ثم تابع محدثي مسترسلاً حتى وصل إلى الجد الأول المؤسس (ابو رباح)، حدثني عن بطولاته عندما جاع ذات ليلة، فاصطاد طائر العنقاء وقام بنتفه وشوائه، وعن قدراته الجسدية الخارقة في الزواج من الف إمرأة ..، وهنا توقف محدثي ونظر إلي قائلاً : هل تعلم أن شبهاً يجمعك بالمرحوم "ابو رباح" من ناحية العينين تحديداً !!، ولست أدري أين رأى محدثي المرحوم الذي لم يكن على عهده رسم أو تصوير !، ثم عزا ذلك الشبه لعرقنا الأصيل الذي لا تشوبه أي أعراق دخيلة، فعائلتنا كما قال دأبت على (ألا تبيت بناتها في الخارج)، أي أن بنات العائلة لا يتزوجن من أغراب، وبرر ذلك بالحفاظ على نقاء العرق، إلا أن الحقيقة التي أعرفها، انهم لا يزوجون البنات من الأغراب حتى لا يذهب الارث لغريب، لأن الإناث في الشرق ينظر إليهن كثقب في حصالة العائلة !!

هذا بعض الذي يحدث معي ومعك ومعها، والمخفي أعظم؛ فلا تلومونا على مصادقة الجدران والكتب، ولنذهب طواعية إلى عزلة بكامل قوانا العقلية، قبل أن يقتادنا رجلان ضخمان بثياب بيضاء إلى مصحة الأمراض النفسية !!

-------------------------------------------------------------------------------------
الأحداث والأسماء الواردة في المنشور من نسج خيال الكاتب

صفحتي على فيس بوك الكاتب نادر أحمد

الخميس، 20 نوفمبر 2014

الأسبوع الواحد والأربعون - مكانك سر





  
  اشتاق إلى النغمات في صوتك، و بمناسبة  ذكر الموسيقى، من أين اشتريت أحبالك الصوتية؟ عندي آلة وترية، لا أنفك أبدل أوتارها، جربت فيها الوتر الياباني، الهندي، الإسباني  ... لا فائدة، لا شيء يملأ الرأس طرباً مثل "مرحبا " تقولينها على استحياء !!

أشتاق إلى النغمات في صوتك، أتصل؛ فتأتي الـ"مرحبا" بنبرة كسلى، متعبة، مرشوشة بالدلال، وأنا الذي ما أحببت مثل ثلاثتهم _ أي الكسل، التعب المصطنع، الدلال _ في الأنثى، أمد خيوط الحديث حتى يضيق بها الأفق، أختلق المواضيع الغث منها والسمين، أطيل المكالمة بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، علني أطفئ الشوق المشتعل، تنتهي المكالمة، أغلق الهاتف؛ فيعلو أجيج اللهب في صدري أكثر ... حبذا لو وضعتِ تحذيراً  أن صوتك مادة قابلة للاشتعال ! أرأيت إن وضعنا الجمرة في الماء فزادها توهجاً ..، هذا حالي معك ، أشتاق ، أتصل حتى أحصل على الجرعة، أقفل، فيزداد الشوق أكثر !!

أنا العاشق المناوب 24 ساعة يومياً  على الاشتياق لكِ، وشاعر بلاطك كلما جاع جمالك المتوحش إلى كلمات الإطراء و الغزل، وأنتِ مكحلة عيني، في وجودك تفقد كل الأشياء قيمتها، تصبحين المتن وما دونك هوامش، تصبحين الوجود وما حولك خواء؛ الآن فقط ، أستطيع القول أنكِ الهدية التي أعدت على مهل في السماء لرجل طال به الانتظار، وبريق الفرح المتلألئ في عينيكِ عند رؤيتي  إشارة صريحة إلى أن قلبك الصغير قادر  على حمل حبي الكبير !!

كل يوم سأشتاق لكِ أكثر، وأحبك أكثر ما دمت  في المكان ذاته، فلا أنا أرجع خطوة إلى الوراء مادمتِ تواصلين الركض في شراييني، ولا أتقدم مثلها إلى الأمام مادمت مخلصاً لنشأتي في الخوف من المجهول، والزواج بالنسبة إلي أكثر مجهولية من الثقب الأسود بالنسبة لعلماء الفيزياء الكونية !!

وما بين الحب والزواج برزخ الخطبة، أولها دلع وولع وضحك وغزل، وأوسطها محاولات للتهرب من شقيقك الصغير الذي لن ترفع (رجله عن رجلنا) بناء على وصية حازمة من أمك ما دام الكتاب لم يبلغ أجله بعد، وآخر الخطبة أن نستمع إلى الجميع إلا بعضنا بعضا ، فهذه أمك التي تشغل هاتفك بالساعات مصرة على أن يكون طقم غرفة الصالون من (ميداس)، وهذه خالتك تملأ "الواتس أب" صورا لشبكات ألماسية التقطتها من واجهات الصاغة التي مرت بها اثناء تجوالها في السوق لشراء (سابو ) !! وهي التي تعرف جيداً أنني في انتظار (الجمعية) حتى يتسنى لي دفع أجور صالة الخطبة على الطريق الصحراوي ! وهذا أبي الذي يوصيني بأن أكون حاسماً منذ البدايات، وألا أحني ظهري لبيت عمي فيمتطوه، وأن أقطع رأس القط قبل حفل الزفاف، وهذه أختي في مداخلة مهمة على الهاتف، توصيني بفعل ما يملي علي رأسي لا رأس أمك، وفي آخر النهار أكون أنا محامي الدفاع عن أهلي، وأنت محامية الدفاع عن أهلك، وإذا ما قدر لنا أن ننجو  من هذا كله ... يكون مستقر رأسينا تحت سقف واحد متداع  (لأسباب اقتصادية) !!

أخاف أن يفرق السقف الواحد الذي سيجمعنا الشوق الذي تراكم عبر الزمن و المسافات، أخاف أن أعتادك؛ فالاعتياد يفقد الدهشة؛ وكيف برجل مازال عقله على رأس عمله أن يتنازل عن حصته من دهشات متعدده تصنعها امرأة واحدة ..، في كل مرة تدهشني تصفيفة شعرك، ماذا لو ضاق وقتك غدا عن الوقوف أمام المرآة لتصفيفه بسبب (الجلي والطبيخ والنفيخ)، وصرتِ تجمعينه خلف رأسك على عجل بمطاطة رخيصة ..، في كل مرة يدهشني عطرك ؛ ماذا لو أصبح (القرش) في اليد شحيحا وصار (صندل) الولد أولوية ..، تدهشني رسائلك بلغتها الأنيقة ؛ ماذا لو غادرت البلاغة تلك الرسائل غدا، وصارت مقتصرة على جملة المتزوجين السرمدية (جيب معك ربطة خبز وانتة جاي و ضمة بقدونس) ... تحبين من الورود الأحمر ؛ أخاف أن ينتقل حبك للأحمر غدا من الورد إلى اللحمة، لأن العين ستبصر الذبائح الحمراء الشهية المعلقة في محلات اللحوم، إنما اليد أقصر من شرائها !!

أنا وأنت اليوم نضحك على كل صغيرة وكبيرة؛ فلماذا نستبدل الذي هو  الأدني بالذي هو خير ؟!  سيصبح للابتسامة عيد وطني يتزامن مع عرض (سامح مول) على اللحوم المجمدة !! أنا وأنت اليوم نذهب في نزهة حيث تحملنا الرياح؛ فلماذا تصبح النزهة غدا مأمورية عسكرية توزع فيها المهمات، أنا مسؤول عن القوات الراجلة - أي القادر على المشي من الأولاد – وأنت مسؤولة عن القوات المحمولة ذراعاً (الرضع منهم) ..، قلتِ ذات يوم " لو نظرت في عينيك دهراً لا أشبع "، أقول لكِ اليوم " غدا لن تلمح عيونك عيوني لأن عيونك على الأولاد" ..، غداً عندما تجمع رأسينا وسادة واحدة، سأفقد مكاني في حلمك، وتفقدين مكانك في حلمي، ويتوحد حلمنا في السعي المحموم خلف تأمين مستقبل الأولاد !!

وهكذا أحافظ على مسافة الأمان التي بيني وبينك، لا أتراجع خطوة، ولا أتقدم مثلها، وأعلم أنك ستملين من هذه المنطقة الرمادية عاجلاً أم آجلاً، فأنتِ اجتماعية ومثقفة، وحولك الكثير من الرجال، وغداً سيأتي الذي ينتزعني من عينكِ، وينمو في قلبك أخضر، وأصفر أنا وأتيبس وتذروني رياح النسيان دون رجعة، ولكن نصيحة مني إليك ... أن تأخذي الذي يريد أن (يُغَّرب)، فبلادنا بلاد التعب، تستكثر العيش على المفرد، فما بالك بالمثنى !!