الأربعاء، 12 يناير 2011

الأربعاء الثاني - سفير لمملكة قلبي في جمهورية عقلي



صوت "أم كلثوم" المجاهر بالخوف من الحب وسيرته، يحتل فضاء بيته، بعد أن كان هذا الفضاء ساحة فسيحة لا تضيق بصوت"جوليا بطرس" الرافض للموت والمصر على البقاء، تسربت إلى قلبي الظنون، فما الذي استبدل الشجاعة المتحدية للموت بالخوف من حب خفيف يموت مع أول صرخة مولود ينام بين زوجين بائسين !!

لكن "سيرة الحب" التي يترجع صداها بين جدران بيته حملتني على الشك بأن صديقي " الثوري" في حالة حب آدمي تفضي إلى زواج فيزيائي، لكنني سرعان ما قمت بإقصاء هذه الفكرة بعيدا، فصديقي "ثوري" مختلف عن البقية الكلاسيكية، والثوار في حالة عشق دائم تؤول بهم إلى زواج غير فيزيائي من قضيتهم الكبرى، لكن الظنون تقافزت في رأسي مجددا بعد أن غادر بيته برقبة خالية من القلادة التي يتدلى منها مجسم وطنه السليب، وتذكري للكلمات التي قالها يوم أن صنعت له ذلك المجسم بيدي لا زالت طازجة في عقلي ولم تنتقل إلى رفوف أرشيف الذاكرة بعد، فقد شكرني يومها قائلا " محابس الثوار قلائد تتدلى من رقابهم وليست حلقات مستديرة كتلك التي تلف أصابع البقية العادية من الأزواج البائسين " .

سألته ما إذا كان عطب ما حل بالقلادة، لكن الجواب جاء بنفي أغرقني في بحر من التساؤلات، فما الذي يجعل قوميا "ثوريا" مثله يزاول يومه بلا محبس يرمز لارتباطه الأزلي بمحبوبته الهاجعة خلف قضبان الاحتلال، ولكنه سرعان ما قطع خيوط تساؤلاتي عندما باغتني القول بأن لكل محارب استراحة، وما كان ذلك إلا إعلانا صريجا بأن "الثوري" في حالة حب غير مجازي.

وفي كل حديث قام بعد ذلك بيننا، كان لوصف محبوبته الجميلة في الخلقة والخلق والروح المساحة الأكبر، كما تم استبدال الأحاديث عن مشاريع ما بعد تحرير الأرض بالحديث عن مشاريع ما بعد الزواج، وفي المرة التي حذرته فيها من خظر الإصابة بذبحة (لاانتمائية) في قلبه بانيا هواجسي على انخفاض مستوى الثوران في دمه بشكل مطرد، ربت على كتفي قائلا: " أنا ثوري بالغ راشد أحسن الاختيار، وأعرف أين أضع قدمي، وزوجتي القادمة ثورية مثلي وزواج ثوري من ثورية يعني أن ولي عهدهم القادم هو مخلص الأمة المنتظر كما أن ديني أحلها مثنى وثلاث ورباع" ! فما كان مني إلا أن ألوذ بالصمت أمام تلك الحجة الدامغة.

مر الزمان وانصرف كل واحد منا إلى مشاغله، ولما كنت عاكفا على صنع مجسم من الذهب لخريطة وطن عربي سقط حديثا، استحضرت موقفا مشابها بكافة تفاصيله، فقد عرضت ذاكرتي شريط الجلسة التي كنت أصوغ فيها خريطة "فلسطين" ذهبا، يومها قال الثوري متأسفا، أخشى أن أراك تصوغ خريطة "العراق" مستقبلا، فما كان مني إلا أن أتظاهر بالعبوس واقول بعد ذلك بحزن مصطنع: " لا قدر الله"، ولكنني بغفلة منه قلبت صفحة الأطلس لاستراق نظرة سريعة لمشروعي القادم "دارفور" !!

شريط الجلسة أشعل في صدري نار الاشتياق لجلسات "الثوري"، الآمر الذي حملني على الإتصال به كي أطمئن على أحواله وأرى ماذا فعل الزمان به، ولكن صوته المتحمس لم يأتي وجاء مكانه صوت آلي لإمرأة مغناج تقول " الرقم المطلوب غير مستعمل"، حزنت في بداية الأمر لأن صديقي "الثوري" غير نمرة هاتفه دونما أي تنويه أو إشعار لأعز الأصدقاء، ولكن أخبارا حملها طرف ثالث وصلتني عن "الثوري" أنه لم يغير نمرة هاتفه قط، وكل ما في الأمر أنه غير البلاد فقط !!

سكنت بالعجب هنيهات قليلة، ولكنني سرعان ما استطعت أن أقرأ تفاصيل قصة رحيل صديقي "الثوري" فوق صفحات عقلي المهزوم، دونما الحاجة إلى الطرف الثالث ليروي لي تسلسل أحداثها، فقد طار صديقي بعيدا ليبحث عن شريعة أوسع تحلل له الزواج من عدد لا محدود من النساء _ قبيلة من النساء _ فقد زوجته القضية الفلسطينة نفسها مذ عرفت أنه بلغ سن الرشد القومي، ثم ثنى بقضية الصحراء المغاربية، ثم ثلث بالصومال التي دقت بابه ذات ليل طالبة منه أن يرد عنها كيد الغراب الأشقر الذي أراد شطر جسدها إلى نصفين، إلى أن جأت تلك الفتاة "الثورية" لتكتب اسمها على الخانة الأخيرة من دفتر العائلة البائسة، ولكنه سرعان ما سرحها بعد أن أتنخت "عراق" قوميته ذات صباح نيساني، ولكن صديقي جن جنونه عندما طالبته "فلسطين" ذات ليل بهيم، أن يبتر يدها "غزة" كي تنسلخ عن صدرها "ضفة"، وكيف لا يجن وهو الذي ما اعترف يوما بمخطط دائرة أراضي الأمم المتحدة التنظيمي الذي نظمها إلى قطعتين منفصلتين (48) ، (67) وما لبث أن طلق كل قضاياه بعد أن جأته "عراق" مطالبة إياه قطع أوصالها لتكون ثلاث ( كردية – سنية – شيعية)، صديقي أراد الستر عليهن ولكنهن لم يساعدن أنفسهن، وها أنذا أيضا أرى خطيبته الفيزيائية السابقة تحاول الرجوع إليه بعد علمها بتسريحه لجميع زوجاته، ولكنه بعد صراع مرير بين العقل والقلب، يأبى الرجوع ويعزم على الرحيل دون أي شيء يربطه بتلك البقعة الصفراء من العالم، وبعد أن قرأ الخبر الصحفي عن السفير السوداني في السودان ! ! خاف أن تنتقل عدوى متلازمة الانفصال العربي إلى جسده العربي، فيضع سفيرا لمملكة قلبه في جمهورية عقله !!

رحل ... تاركا وراءه صندوق مغبر في جوفه قلادات كانت تربطه بقضايا كانت كبرى ذات يوم ولكنها تقزمت، وذبلة خطوبة كانت تربطه بفتاة كادت أن تشعل حرب أهلية في جسده بين أنصار قلبه الذين يعشقونها وأنصار عقله الرافضين لها خشية أن تربطه بالمكان،
رحل ليغير الوجوه بل المشهد البائس برمته ...
أنا أيضا أشتم رائحة شواء الفتنة التي تزود بحطب الطائفية والقبلية والجهوية، ولكنني محكوم بالأمل، وعندما يأزف الغروب وتتلون الدنيا بلون الشمس الأحمر ساعة الغروب، فذلك لا يعني أن تلك الشمس يئست منا و رحلت عن سماءنا للأبد، فوفقا لرؤيتي فأنا أتخيلها تأوي إلى مخدعها خلف الجبل بعد يوم طويل قضته في العمل على إضاءة نهارنا، كما أن الصعاليك أمثالي ينظرون للانفصال من منظور مختلف حسبما يقتضي التقاؤل، فالانفصال فرصة لي لصناعة المزيد من الخرائط، بل هو سوق وظائف جديد للجميع، لكتاب الشعر العامي الركيك حتى يدبجوا القصائد للدول المستقلة حديثا، وللموسيقين الذين سيلحنون هذه القصائد، وللمهندسين الفاشلين الذين سيدشنوا أبراجا لا يسكنها أحد حتى يكيدو بها جيرانهم وللأطباء وللمزارعين و ... و،

الفرص قادمة، فأي مجموعة من البشر تقطن فوق هذه الأراضي العربية سترفع علم الإستقلال حتى لو كانوا (حارة)، وسيصل عدد دولنا العربية إلى ألف أو ما يزيد
أسف ... ولكنني محكوم بالأمل

أنا حزين على صديقي "الثوري" الذي انهزم سريعا، ولا أؤيد ما فعل، ولكنني كلما ألقيت برأسي على وسادتي ليلا صرت أردد لا إراديا


سلام عليكم أهلنا في المهجر، أنتم السابقون ونحن اللاحقون بإذن الله ...
http://www.osbo3yatjaber.blogspot.com/