الطفل الذي كنته قبل عشرين عاما أو أكثر، والذي خلت أنه مات، عاد من البعيد ليستثير جنوني وطيشي وسذاجة أحلامي، فقد كان من دأبي يوم كنت ذلك الطفل أن أتقمص دور بطل الموسم، ففي موسم "بروسلي" تحطم زجاج عدد لا بأس به من سيارات الحي، كما عانى أصدقائي الأطفال من عنفي المفرط تجاههم، ولم يسلم بعضهم من بعض الرضوض والجروح السطحية، وفي موسم "سوبر مان" كسرت ذراعي اليمنى وشج رأسي أثناء أول محاولة للطيران من فوق الخزانة !!
وفي محاولات منها لكبح جنوني، قامت أمي بإتلاف أشرطة "فيديو" أبطالي أولا بأول، ولكن طيشي كان يتجدد مع كل ظهور لبطل موسمي جديد، ولو أن أمي اليوم لا زالت على قيد الحياة لألقت من النافذة التلفاز والراديو وكل الوسائل التي تتسرب منها أخبار العالم الخارجي، فتلك الوسائل هي المسؤولة عن احياء ذلك الطفل الذي عاد بصحبة عادة التقمص تلك، فانا ومن فرط متابعتي لأخبار الثورة التونسية، اجد نفسي متقمصا لشخصية "البوعزيزي" الشاب الذي أحرق نفسه ليشعل فتيل هذه الثورة، هذا الشاب الذي جعل أسطورة طائر الفينيق الإغريقية واقعا، ذلك الطائر الناري الذي كلما احترق تكون من رماده طائر آخر، فمن رماد "البوعزيزي" اشتعلت الثورة وبزغ فجر الخلاص من ليل القهر الذي طال.
لذلك ... قررت أن أحرق نفسي أمام أعين الذين ظلموني ودمروا حياتي، غدا أذهب إلى مبنى رئاسة الوزراء وأشعل النار بنفسي ومن رمادي تشتعل الثورة، ولكن ... لماذا أمام مبنى رئاسة الوزراء بالذات، لماذا لا أقوم بذلك أمام دائرة السير التي حررت مخالفة سرعة بحقي في إحد شوارع المفرق مع أنني لم أذهب في حياتي إلى مدينة المفرق قط !!
ولكن ... لماذا أمام مبنى حكومي، فهل الحكومة هي المسؤولة الوحيدة عن ضياعي، فماذا عن ذلك العجوز الذي حرمني حتى مجرد التفكير في معاودة دخول المسجد، عندما صاح بوجهي بفظاظة كي انسحب من الصف الأول في الصلاة الأولى لي في المسجد، بحجة أن ذلك الصف حكر على الكبار فقط، يومها تركت الصلاة في المسجد، بل تركت الصلاة كلها من شدة كرهي لهذا العجوز المهتريء، وماذا عن "ابو ايمن" صاحب المطعم المجاور لبيتي، والذي باعني ساندويش فلافل مقليا بزيت سيارات كدت على إثره أن أفقد حياتي، وماذا عن حبي الأول "فوزية" التي خانت عهد حبنا العذري وباعتني مع أول عريس جاءها بسياة (نمرة خليجي) !!، وماذا عن مدرب فريق الناشئين للكرة الذي أطاح بمستقبلي الرياضي عندما أعطى مركزي في قلب الهجوم لـ "أحمد" لا لمهارة يفوقني بها، إنما لكسب ود "ام احمد" الجميلة المطلقة حديثا !!، وماذا عن أستاذ الرياضيات الذي حملني المادة ظلما أكثر من مرة لأنني لم أكن ذكيا ونبيها كبقية الطلاب الذين كانوا يحضرون له أطباق (المقلوبة) و (المسخن) البيتية الصنع بشكل يومي !!، وماذا عن مديري في العمل الذي أراح زميلتينا "سوزان" من عناء صعود السلم الوطيفي، عندما وضعها على عتبة القمة بترقية فضائية ما استحقتها بمؤهلات علمية أو خبرات عملية، إنما لمؤهلات فيزيائية بارزة أنعم الله بها عليها !!، وماذا عن سائقي "التكاسي" الذين كلما رضخت لمخطات الطرق الخاصة بهم بحجة الأزمة، ولم يكتفوا بذلك بل اقسموا ساعة الحساب أن لا فكة لديهم، فمشوار النصف الدينار اصبح بدينارين !! وماذا حتى عن أبي الذي زج بي في هذه الحياة رغم بؤسها القاتم، بل ماذا عن الحياة ذاتها التي لا تحترم ضيوفها فلا تتورع عن غسلهم وكيهم وبصقهم !!،
دمي مهدور بالتساوي بين القبائل ... فأمام من أحرق نفسي !!
ولكن قريحتي تتفتق عن حل يرضي جميع الأطراف التي ضيعتني ومزقتني، أرسل رسالة لجميع ممثلي الفعاليات الرسمية والشعبية وأئمة المساجد ورؤساء التجمعات الكنائسية ورؤساء نقابات الأطباء والمهندسين والمحامين وأصحاب السيارات وأصحاب البسطات وأصحاب النوادي الليلية والكازينوهات، وغرف الصناعة والتجارة ووجهاء العشائرو رؤساء هيئات حقوق الإنسان والحيوان، اكتب فيها " يا أصحاب المعالي والفخامات والسماحات والوجاهات يا من كلتم علي العذابات، هلم لتشهدوا حرق جسدي الذي من رماده ستشتعل ثورة التغير، هلموا لعرض قلما تشاهدون له مثيل في حياتكم، لا تشفقوا علي أبدا، واعلموا أن هذه النار التي بها سأحترق أرحم وأبرد من ناركم التي لطالما احرقتموني بها، وبخيالي الواسع أستحضر المشهد الرهيب، يتحلق الجميع من حولي، ثم يستلون "موبايلاتهم" من أغمدتها، يرفعونها عاليا لتصوير المشهد الذي سيتعولم ويعرض على كل مواقع "الفيديو" العالمي منها والمحلي، وقد تدلت (كروشهم) أمامهم، وساحت صبغات شعرهم وسالت على جباههم خطوط سوداء رقيقة، لا لحرارة الطقس إنما لحرارة الذنب.
ولكنني أتمهل قليلا قبل الشروع في حرق نفسي، فمن هذا الذي سيشعل الثورة من بعدي، وما هي تلك الثورة؟ ثورة من على من ما دام ضياعي موزع عليهم بالتساوي حكومة وشعبا؟، كما أنني عندما أتفرس في الوجوه التي حولي، ألاحظ أن النار أولى بهم مني، فلماذا لا أقوم بحرقهم وأهرب !!، ولكن النار خسارة بهم، فتلك النار صارت مقدسة بعدما عانقت "البوعزيزي" ورقصت معه رقصته الأخيرة "حرية".
أعدل عن الفكرة التي أصبحت (موضة) ففي كل يوم أسمع أن مواطنا عربيا قام بحرق نفسه، ثم أعود لحياتي التقليدية،
فيا من عزمتم على حرق أنفسكم على رسلكم، يا من ظننتم أنكم أسراب فينيق من رمادها سيولد التغيير، اعلموا أن هذا الطائر يأتي كل ألف عام مرة، فلا فينيق جديد من بعد "البوعزيزي"، فمهما ضاقت لا بد أن تنفرج فربكم أرحم بكم من أمهاتكم اللاتي ولدنكن، واعلموا أن ورائكم أمهات وأخوات وزوجات قلوبها هشة لا تقوى النظر إلى وجوهكم المحترقة بعدما اعتدن النظر إليها بكامل بهائها وعافيتها، فلمن تتركوهن، لمصير أعمى لا يميز بين طفل وشيخ ولا بين إمرأة ورجل، قوموا أنفسكم وثورا عليها قبل أن تثورا على غيركم والله من بعدها كفيل بالإصلاح، فأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما في أنفسهم، وللموت ألف طريق وهو قادم لا محالة، فلا تختاروا الطريق المؤدي إلى جهنم، إلى أين تغادرون، إلى قبر رطب ضيق، وكلوا أمركم إلى الله فعساكم أن صلحتم أصلحتم ...
للحرية طريق واحد ... ثورة على النفس
http://www.osbo3yatjaber.blogspot.com/