الأربعاء، 29 أغسطس 2012

الأسبوع الثامن والعشرون - السطر الأول





في أعوامك الدراسية الأولى، تلك التي كنت فيها كتلة هزيلة من اللحم الغض والعظم الطري؛ تقف أمام أمك وهي تحكم إغلاق أزرار (مريولك) المدرسي البغيض، هذا الذي بينك وبينه عداوة بحكم ذكورتك التي تتحرق إلى الخلاص من كل ما هو مشترك بينك وبين الإناث، بينما يجلس أبوك خلف مقود السيارة مرسلا الزامور تلوالآخرأملا في أن تتعجل، لكن هيهات الخلاص من أمك التي تقبلك ثم تتاكد بأنك ترتدي "الكولون" هذا البغيض الآخر الذي يساوي (صوبة رومو) قدرا في مقاييس أمك !!

وما أن تتحرك السيارة حتى يستدير رأسك إلى الوراء، لتلقي نظرة الوداع إلى أمك التي تقف بالباب منادية؛ بأن لاتنسى أن تشرب عصير"كارولين" بعد الإنتهاء من (ساندويشة اللبنة والزيتون)، ولا تنسى أن تعيد (كيس الساندويشة)، ومن الممكن أنها كانت تقول أشياء أخرى، ولكنك لم تكن لتسمعها بحكم ابتعاد السيارة عن البيت !

أنت الآن في السيارة، كل شيء أسود في عينيك، تماما مثل الذي يساق إلى حبل المشنقة، فبعد أعوام من من اللهو واللعب والسهر حتى نهاية مسلسل السهرة – هذا الذي كان يبدأ بعد نشرة أخبار الثامنة مساء والتي كان يقدمها غالب الحديدي وسوسن تفاحة -  ها أنت تذهب إلى مكان تجهله اسمه المدرسة.

أنت الآن في المدرسة، إنه اليوم الأول، ذلك الذي يشبه في أهواله يوم القيامة، أنت الآن متأكد من أن أباك صار بعيدا عنك، وأمك أبعد، أنت الآن في غربة، خوفك يزداد، نبض قلبك يتسارع، وهذه الحقيبة باهظة الثمن التي اشترتها لك أمك من "كارت بلانش" في الشميساني لن تفلح في التخفيف من روعك، ومقلمة "غرندايزر" التي اشتراها أبوك من (البسطة) صارت كئيبة أيضا، لا كما كانت بهيجة ليلة البارحة وأنت تملؤها بالأقلام والمساطر.

تقف في الطابور، تتأمل بفضول طفولي ذلك المشهد الجديد من حولك، تشعر بقليل من الراحة عندما ترى أن أقرانك من الأطفال أشد رعبا وذعرا منك، تشعر بالارتياح أكثر عندما تتيقن بأن حقيبتك هي الأجمل، رغم أنها لم تكن "سبونش بوب" كما لم تصبح حقائب الفتيات "فلة"، وذلك لعدم ظهور (سبيس تون) بعد، لكنها كانت الأجمل، فتختبر شعور (البرجوازي القذر) للمرة الأولى في حياتك، شعور جميل بالفوقية ... الطالبة التي أمامك تنظر إلى السماء، فيدفعك فضول طفولي لسؤالها أن إلام تنظرين؟ فتقول: إلى السماء، أشعر بالارتياح كلما شعرت بوجود الله معي في ساعة العسرة هذه ! ساعة العسرة !! هل نحن في غزوة؟ فتسأل نفسك مالذي دفع بأبويك إلى اقحامك في هذه الورطة؟ أهو العقاب لأنك كنت مشاغبا البارحة؟ حسنا ... عندما أعود إلى البيت سأعتذر منهما، ولن أشاغب قط على أن لا يرسلاني إلى هذا المكان الحقير مرة أخرى ... ولكن هل من مرة أخرى؟ هل سأعود إلى البيت؟ هل سأخرج من هذا المكان سالما، أشعر أنها القيامة وبعد قليل سأغادر إلى جنة أو نار !!

تتابع تفحص المكان، فتستقر نظراتك على صف المعلمات، فيهرب كل تبقى من الراحة عندما تتفرس وجوههن، هن مجموعة من العسكر، ولسن مجموعة نساء، وقفت إحداهن بملامحها الصارمة جدا، ورقبتها المشرئبة كما (ديك الحبش)، فتعرف على الفور بأنها رئيسة الكتيبة، أو كما جاء في مسماها الوظيفي مديرة مدرسة، في هذه اللحظة بالذات تتمنى لو أنك ترى وجه أمك الدافيء بينهن عله يرسل القليل من الطمأنينة إلى قلبك المفزوع !
هناك في البعيد وعند المدخل المقابل بالتحديد، تلمح إمرأة سمراء مسنة، في يدها مكنسة، تعرف لاحقا بأن اسمها "بدرية"، أنت الآن تدخل إلى غرفة الصف وعند الباب تتسنى لك رؤية "بدرية" عن قرب، جسد ضئيل، ووجه متعب جدا، وكأنما بؤس الإنسانية قاطبة اجتمع فيه، تتمنى لو أن هذا الذي تعيشه الآن مجرد كابوس سرعان ما سيذهب !!

في الصف، هناك فتاة تشبه القطة الشيرازية، بيضاء وشعرها "الكاريه" الناعم جدا كما "اليابانيات" يستقر فوق رأسها كما لو كان شعرا مستعارا، يطيب لك المشهد فتجلس إلى جانبها، ولا تعرف إن كان هذا حصل لأنك مؤمن بأن الله جميل يحب الجمال، أم لأنك (نسونجي) منذ الصغر !!

لكن "ديمة" ترتعد، إنها خائفة جدا، تخرج عصير "كارولين" من ((((((((السبت الأخضر وتمده لها، علها تهديء من روعها، لكن "ديمة" خائفة جدا، حالها حال الأغلبية في هذا الصف اللعين، ترفض "ديمة" العصير، فتنظر إلى (مطرتها) الزرقاء في إشارة منها بأن هذه (المطرة) ممتلئة بـ(عصير زاكي) !

ثم فجأة يعم الهدوء، واحدة من صف العسكر الذي كان في الخارج تدخل الصف، تقف أمام الأطفال، تقدم نفسها كمربية للصف، ثم تشرع في السؤال عن طموحاتهم حين يكبرون، فيقول أحدهم غواص وآخر رائد فضاء، وهي تحمسهم بأسلوب جميل، لكن التفاعل لازال قليلا، ذلك أن الأغلبية لا زالت ترتعش، وها انت الآن ترى هذه المعلمة جميلة، فعندما نطقت وتبسمت وصفقت تغيرت ملامحها، ولست تدري هل صارت جميلة لأنها ابتعدت عن صف العسكر، أم لأن روحها جميلة صارت ملامحها أيضا جميلة، وها أنت الآن تشهد بأن أنسب الكائنات للتعامل مع الأطفال هو الأنثى، لأنك اليوم لما كبرت وعرفت الحقيقة من حولك، لن تحتمل سذاجة طفل يقول لك بانه سيكون غواص، ستنقلب على ظهرك ضاحكا ثم تقمعه ( قول مواسرجي ... غواص مرة وحدة)، أما رائد الفضاء فبعد ان تصاب بوجع المعدة لكثرة ما ضحكت، سيكون جوابك له بأنه عندما ينتج عالمه العربي "تلسكوب" وحتى لو كان مداه شباك (الجارة) على أحسن تقدير، يحق لك أن تحلم بهذا، لكن المعلمة كانت تحييك وتصفق لك !

الحصة الثانية تدخل، المعلمة التالية بدينة ذات ملامح متجهمة، نظرة لئيمة واحدة منها قضت على القلة التي كانت متفائلة قبل قليل، الرعب الآن يسبر أسرع من النار في الهشيم، ولتزداد الأمور تعقيدا، فأن المعلمة تجلس في الصف لحصتين متتاليتين ... يالطيف، ديما تبكي وتقول بصوت خافت (بدي ماما)، تفكر بأن تهديء من روعها عبر (ساندويشة اللبنة والزيتون) لكنك تتراجع عن قرارك لأنك جائع، وتقول في سرك لـ"ديمة" رب يحميها (وانا مالي) !!

دق الجرس خرج الجميع إلى الساحة، وبعد ان التهمت وجبتك الشهية التي ذكرتك بأمك، ذهبت إلى الحمام، وهناك شاهدت ما لم تكن للتوقع ...

طابور طويل من الطلاب والطالبات يقفون وقد خلعو الجزء السفلي من ملابسهم بأكمله، و "بدرية" تغسلهم الواحد تلو الآخر، لقد (عملوها تحتهم) من شدة الرعب، و"بدرية" تتأفف وتقول " هكذا دائما في في بداية العام"، أنها بفطرتها البسيطة تشير إلى ما توصل إليه علم النفس حديثا، والذي سمي بقلق الإنفصال، وهو عادة ما يصيب الأطفال في يومهم الدراسي الأول عندما يتركون أمهاتهم لساعات ما اعتادوا عليها من قبل، فرغت من قضاء حاجتك وأطلقت ساقيك للريح، تاركا ذلك المشهد المرعب، ولكن أين تهرب، فكل مكان موت، ترجوا الله أن يمضي الكابوس على خير !

مسكينة "بدرية" هي لم تتزوج، واكيد انها كانت تتمنى الأطفال، ولكن هذا الذي جاءها من أطفال ليسوا لها، فضلاتهم، وزبالتهم التي يخلفونها في الساحة والصفوف، غريبة هذه الدنيا، صدقا غريبة، واكيد أن "بدرية" تفعل كل هذا من أجل 80 دينار على أحسن الحالات ... كم أنت صعب يا رغيف الخبز !!

تمر الحصص المتبقية، وها انت تلمح والدك وقد ركن السيارة في الظل، فتندفع مسرعا لتخرج من هذا الكابوس الرهيب، وفي عقلك الطفولي بأنك بكل بساطة ستسرد أحداث اليوم الرهيبة لأمك، كي لا ترسلك إلى المدرسة مجددا، ولكن هيهات، ستعود لتمضي فيها اكثر من ثلاثة أرباع عامك، ويطول بك الحال لأعوام وأعوام، لقد أزعجك مشهد الحمام، ولكنك لم تكن تدري بأن حياتك القادمة كلها ستكون "كاكا"، وما اليوم المدرسي الأول إلا فصلا واحدا من فصول معاناتك، فهناك زيارات لطبيب الأسنان، وهناك امراض، وهناك حقن حادة، وهناك زعل، وهناك (توجيهي)، وهناك حروب، وهناك موت، وهناك وهناك ...


هذا كان السطر الأول من كتاب حياتك، فلو انك استقلت يومها ...

osbo3yatjaber.blogspot.com