منذ زمان ليس بالبعيد، كان الهاتف الأرضي هو
وسيلة الإتصال المباشر الوحيدة؛ بالذات هذا لأسود الذي تتوسطه بكرة معدنية أو
بلاستيكية فيها الأرقام من صفر إلى تسعة، بحيث تضع إصبعك على الرقم المطلوب ثم
تدير البكرة حتى نهاية الدائرة، ثم تنتظر حتى تعود البكرة إلى نقطة البداية، مكررا
هذه الخطوة ست أو سبع مرات (حسب عدد خانات الرقم المطلوب) لتصل بالنهاية إلى وجهة
اتصالك.
وفي
كثير من الأحيان كنت تجري تلك العملية التي قد تأخذ من الوقت أكثر من خمسة دقائق كي
تجري محادثة هاتفية لأقل من دقيقة ! وفي
احيان أخر كنت تنسى اسم الشخص المطلوب لطول العملية!، لذلك فأنك في العديد من المرات كنت تفضل الذهاب
إلى بيت الشخص المطلوب على أن تجري هذه العملية الطويلة !!
إلا أن ذلك لم يكن ليقلل من هيبة هذا الهاتف
الذي لعب دورا إحتماعيا بارزا يتمثل في تعزيز الترابط والتآخي، فعلى سبيل المثال، عندما
كنت تتلقى مكالمة هاتفية، غايتها الإطمئنان عن أحوالك، فأن ذلك كان يعني لك
الكثير، ذلك أن المتصل قد احتمل ما احتمل في سبيل الوصول إليك؛ ست دورات كاملة
ذهابا ووإيابا لهذا القرص الذي يشبه في بطء حركته إمرأة سمينة باردة القلب تقطع
الشارع من أمام سيارتك دونما أي اكتراث لوجودك أو إيماءة تدل على الشكر لأنك أوقفت
سيارتك كي تعبر، ناهيك عن حرص المتصل الإبقاء على مشاعره في حالة حياد تام، فأي
إنفعال كأن يضحك ويندفع خطوة إلى الوراء قد يتسبب في انقطاع السلك القصير ليقع
الهاتف من بعد ذلك ويتحطم، وأنت أيضا بدورك كنت تقف ثابتا محافظا على حياديتك، فأي
حركة خاطئة قد تكلفك الكثير، كان الإحترام متبادلا، المتصل والمتلقي يقفان في وضع
عسكري حتى إنهاء المكالمة !!
هذا الهاتف الأرضي كان يشبه في هيبته مديرا
عاما يستقر في كرسيه بكل هدوء وثقة، فدخوله بيتك لم يكن بالمجان، فقد كانت رسوم
اشتراكه مرتفعة جدا، حتى أنك كنت تصبح حديث الجيران عندما كانوا يشاهدون وصول موكب
الهاتف المهيب، هذا الذي يتضمن (بكب) وزارة المواصلات الأحمر والذي يكون في داخله
فريق فني يعملون على توصيل الأسلاك من بيتك إلى عامود الهاتف الخشبي لمدة تصل
أحيانا إلى أربع ساعات، وليس هذا فقط بل أن الهاتف الأرضي كان لاعبا رئيسا في سوق
العقارات، فالمنزل الذي فيه هاتف أكثر قيمة من المنزل الذي ليس فيه هاتف .
وإلى جانب الإنتظار الطويل جدا والذي قد يصل
إلى عامين أو أكثر في بعض الأحيان بعد تقديم الطلب لوصول حضرته إلى بيتك، ثمة
انتظارات أخرى، مثل تلك التي كنت تنتظر فيها مكالمة من الحبيبة، عندما كنت تحرص
على الجلوس في مدى قريب منه، كي يتسنى لك الرد عليها قبل أن يرد أخوك (الفساد)
الصغير ويبلغ أباك لتصبح ليلتلك بيضا مسلوقا بالوحل، ولإنتظار الأمهات أمام الهاتف
شجون اخرى، فعندما كان يسافر أحد الأبناء إلى الخارج، فأن الأم كانت تتسمر أمامه،
داعية الله بأن يرن، حتى تطمئن على وصول ابنها بالسلامة، أما رنينه فقد كان له
دلالات متعددة، فرنينه صباحا يعني أن المتصل سيكون إحدى خالاتك أو صديقات أمك، مما
يتيح لك الفرصة للقيام بأي عمل كنت تنوي فعله دون علم أمك، ذلك أنها لن تفلت
السماعة قبل آذان الظهر، أما رنينه ساعة الغروب فقد كان يدل على أن المتصل هو
أبوك يسأل ما إذا ما كانت العائلة بحاجة إلى أي شيء، فتقوم أمك بدورها بقرأة اللائحة
التي أعدتها منذ العصر؛ مشاو، فواكه، ايس كريم، كنافة، دواء للسعلة ... فتسمع صوت أبيك
المضغوط عبر السماعة وهو يلعن الساعة التي دخل فيها الهاتف إلى البيت، لكن الغريب
في الأمر أنه كان يعود إلى البيت محملا بكل الطلبات !!
أما
رنين الهاتف بعد منتصف الليل والعياذ بالله، فقد كان له الدلالة الأسوأ، حادث أو
وفاة او أي مصيبة أخرى، وبالمناسبة فأن مخرجي الأفلام المصرية قد لعبوا على هذا
الوتر كثيرا، فالمشهد الخالد في الذاكرة، هو ذلك المشهد عندما يتلقى أحدهم هاتفا مفاجئا،
ليكون رد المتلقي ...
( ايه بتئول ايه ... امتى الكلام دة حصل ...
مش ممكن )
ثم تسقط السماعة السوداء من يده بينما تشرع
اليد الأخرى في زحزحة ربطة العنق يمينا
وشمالا، وفي ذلك إشارة للمشاهد أن البطل أصيب بنوبة قلبية، لينتقل المشهد بعد ذلك
إلى المستشفى، حيث يركض أهل المصاب باتجاه الطبيب الذي يقف بدورة قائلا بصوت عميق
:
(شدو
حيلكم)
فيقاطعه أهل المصاب :
(
الشدة بالله يا دكتور)
فيرد الطبيب :
( احنا عملنا اللي علينا والباقي على ربنا)
!!
وللهاتف الأرضي فضل وافر على البشرية وذلك من
خلال الحفاظ على رشاقة الناس، ففي وقت كانت فيه ثقافة صحة الجسد شبه غائبة، وفي
وقت لم تكن فيه مراكز اللياقة البدنية أو ما يعرف في أيامنا هذه بالــ (جيم)، فقد
لعب الهاتف الأرضي دور مدرب اللياقة البدنية المنزلية، فكلما رن كنت تركض مسرعا
إلى الغرفة التي كان يتربع فيها مثل ملك، والتي كانت على الأغلب غرفة نوم أمك
وأبوك لتليق بمكانته نظرا لحساسية تلك الغرفة وأهميتها في كل بيت عربي (غرفة
العمليات)، حتى أنك أحيانا كنت تركض من الحديقة إلى تلك الغرفة لأكثر من عشرة مرات
في النهار الواحد، لأن أمك كثيرة الأخوات والصديقات، وبهذا فلا مجال لأي فائض من
السعرات الحرارية لأن يبقى مخزنا في جسدك ! !
وللفقيد دور فاعل في رفع سوية منظومة الأخلاق
من خلال المحافظة على الهدوء العام، فكلما ارتفع صوت التلفاز، صرخت امك بوجهك كي
تخفضه، ليتسنى لها سماع أي رنين مباغت، وكلما علت أصوات الضحكات أثناء السهرات
الصيفية في الحديقة، انتقلت أمك من حالة الابتسام إلى حالة العبوس في إشارة منها
إلى تخفيف الوتيرة حتى يكون بالإمكان سماع أي رنين محتمل !!
مرت الأيام والسنين، وكأي ذي شأن رفيع، بدأت
تحاك ضد الهاتف الأرضي المؤامرت والدسائس، وكان للمتآمرين ما أرادوا عندما ظهر
هاتف أرضي جديد بلوحة أرقام عوضا عن البكرة، وبميزة جديدة تسمى (لاود سبيكر) والتي
من خلالها يمكنك الحديث دونما سماعة، فصار التواصل أسهل، بينما قل الإحترام، فقد
صار بإمكانك أن تتحرك قليلا أثناء التحدث عبر الهاتف، كما أن تقديرك للمتصل قل،
ذلك أن عملية الإتصال صارت أسهل وأسرع عن
طريق لوحة الأرقام، أي أن المتصل لم يعان قبل الوصول إليك مثلما كان يعاني أيام
البكرة التي كانت تدور ببطء المرأة السمينة التي تعبر الشارع !!
ألا أكلت يوم أكل الثورة الأبيض، قد يكون هذا
لسان حال هاتف لوحة المفاتيح فور ظهور الهاتف اللاسلكي، فهاتف لوحة المفاتيح الذي أطاح
بأسلافه (هواتف البكرات) غدا اليوم ضحية الهاتف اللاسلكي، وهذا الأخير قام بالتمهيد
للعصر الجديد (عصر الهواتف الخلوية)، فالمتصل
بك الآن مشكوك في تقديره لك، فقد يكون مضطجعا على سريره حاملا هاتفه اللاسلكي بيد،
عابثا بأصابع قدميه باليد الأخرى، كما أن الهدوء ما عاد مطلوبا، فالهاتف معك أينما
كنت : في الحديقة، في المرآب، فوق السطح، داخل خزان الماء ...، كما بدأت السمنة
بالشيوع، ذلك أنه لا ركض بعد اليوم إلى غرفة النوم، إلا أن الحسنة الوحيدة التي
حملها هذا الهاتف هي أنك ما عدت مضطرا لرشوة أخيك الصغير بمبلغ (ربع ليرة) حتى
يذهب إلى الدكان لشراء (اصبعين تويكس) حتى تخلوا لك الأجواء، فمكالمة الحبيبة صارت
متاحة الأن من المطبخ، أو من فوق الشجرة ... أو حتى من الحمام !!
ثم كان التغير الجذري ... ثورة الخلويات،
ومثل أي منتج جديد يكون حكرا على الميسورين، كذلك كان الهاتف الخلوي، فكلفته كانت
تساوي ثمن سيارة مستعملة، غير أن فاتورة هاتفك كانت اعلى من فاتورة وقود سيارتك
الشهري، والأدهى من ذلك أن المتلقي كان يدفع نصف المكالمة- أي أن الفاتورة كانت
على المتصل والمتصل به - ثم أبتدأ التنافس، وذهبت الأسعار إلى انخفاض دائم، وصار
بالإمكان لأي شخص اقتناء هاتف خلوي. ومرت ثورة الخلويات بمراحل عديدة: خلويات لها
(أنتين) بحيث لا تتمكن من الحديث إلا عند رفعه مما يضطرك للنظر يمنة ويسرة للتاكد
من خلو الشارع من المارة؛ فأي رفعة خاطئة للـ(أنتين) قد تقتلع عين أحدهم بسبب طول
(الأنتين) الفارع، وخلويات بأحجام كبيرة، مثل نوكيا (شحاطة) هذا الذي كان يستعمل
في المشاجرات كثيرا، لكفاءته في شج أي جمجمة يرمى عليها، ثم هواتف أصغر برنات أجمل
(هارموني)، ثم هواتف بشاشات ملونة، ثم، ثم ... ألى أن وصلنا إلى جيل الهواتف
الذكية أي فون وأخوته.
أنت الآن تحمل في جيبك عالما صغيرا، ملفات
مسجلة، ملفات مصورة، ملفات فيديو، ألعاب للتسلية، وأكثر من ذلك بكثير، وكل ذلك
موجود على جهاز لا يتجاوز بحجمه قبضة اليد الواحدة، تتصل بأي أحد من أقاربك عن
طريق ثلاث نقرات وفي مدة لا تتجاوز ثوان معدودة يأتي الرد، بإمكانك أن تسجل
اللحظات السعيدة في حياتك، وبإمكانك، وبإمكانك ... ياه هل نحن في الجنة يا
"ستيف جوبز" !!
ياه كم تغير الهاتف ...
وبذلك أكون قد أنهيت سرد السيرة الذاتية للـ(تلفون)
عليكم
قد يظن أحدكم أن أفكاري نضبت، وقد يلعن آخر
الساعة التي دخل فيها المدونة، فبعد أن تعطل لعشر دقائق أو اكثر لقرأة الإدراج،
يجد نفسه متورطا في قرأة سيرة ذاتية لهاتف، إلا أنني عندما قررت الخوض في تجربة
جديدة (كتابة سير ذاتية)، لم اجد أي شخص
معاصر يستحق ذلك، فارتأيت أن أكتب عن سيرة (التلفون) الذاتية، وهل تنكرون أن شغف
الهواتف الخلوية صار اليوم أكثر من قلق الناس على بعضها بعضا، قد يتشاجر معك
أحدهم، لتدوم القطيعة إلى ما لا نهاية، وقد لا يأسف عليك ولو حتى بتنهيدة واحدة،
أما إذا ضاع الهاتف ... فقد يذرف الدمع !!
www.osbo3yatjaber.blogspot.com