الأربعاء، 19 سبتمبر 2012

الأسبوع الواحد والثلاثون - في جوف الحوت






      بالتأكيد انك عرفته من العنوان قبل أن تراه في الصورة، إنه أكبر ما يدب على البر، إنه الديناصور الذي لا ينقرض، إنه الشيء الوحيد الذي إذا ما ابتلعك كنت في جوفه أكثر أمانا من خارجه، فكل مصطدم به خاسر، إنه باص مؤسسة النقل العام.

يتكون هذا المخلوق العظيم من جسد طويل وهو عبارة عن معدة مستطيلة الشكل قادرة على ابتلاع خمسين إلى مئة آدمي (حسب جشع السائق) وست عجلات سوداء عملاقة تساعده على الزحف من ضاحية إلى أخرى، أما الدماغ فهو على يسار مقدمة هذه المعدة، يجلس به السائق الذي يروض هذا العملاق.

يتغذى عظيم اليابسة هذا على فقراء الطرقات من الذكور والإناث من مختلف الأصول والمنابت، أردني ومصري وفليبيني وسيريلانكي في حالة تجسد التعايش السلمي بين مختلف الأديان والأعراق والألوان، يقوم باصطيادهم عن طريق (زامور) حاد لا يتناسب أبدا مع حجمه العملاق، وكأنه الفنان المصري علي الشريف بنبرة المغني السعودي جواد العلي، ما أن ينطلق هذا الزامور الحاد حتى يتم جذب انتباه الفريسة الآدمية، فتدخل طائعة عن طريق الفتحة الأمامية (الباب الأمامي) إلا إنه ولحسن الحظ لايهضم ما يبتلع، بل يكتفي بإخراج عدد من الآدميين من الفتحة الخلفية (الباب الخلفي) عند كل محطة حتى يتسنى له ابتلاع غيرهم في محطة اخرى.

رغم منظره المرعب إلا إنه أليف إلى أبعد الحدود، وكم تشعر بالزهو عندما ترسل إشارة خفيفة من يدك ليتوقف لك طائعا..، سبحان الله !!

في الداخل ألف حكاية وحكاية، فنظرة واحدة إلى الركاب كافية لرؤية الوجع الذي يستلقي على الوجوه، شباب في العشرينات تحسب أنه في خريف العمر، رجال في الخمسينات تحسبها مومياوات فرعونية، نساء تروي وجوههن ألف مأساة، أناس يغفون على المقاعد لفرط ما لاقوا من تعب يوم عمل قد تكون اجرته لا تزيد عن الثمان دنانير، ويتسع هذا الباص لحكايات وحكايات.

أنه مدرسة حياة..، فذات يوم صعدت إلى الباص، قال لي السائق عندما دخلت من الباب الأمامي، ادفع هنا ثم عاود النزول واصعد من الباب الخلفي، فهمت السبب، فالمقاعد ممتلئة، والرجال وقفوا في االخلف والنساء وقفن في الأمام، لقد كان السائق مثل هارون الرشيد محاطا بالفتيات من كل الأعمار والأشكال، أعطيته دينارا، فقال لي بأنه لا يملك أي (فكة)، بحثت في جيبي فلم أجد أي (فكة)، وهنا تقدمت فتاة وقالت للسائق (أنا عمو بدفع عنو) نظرت إلى الفتاة التي لا أعرفها، فقالت لي ( مو مشكلة لما بصير معك فكة بتعطيني) أخجلتني بلطفها، نزلت ثم صعدت من الباب الخلفي، ومشى بنا الباص، سألت عن فكة دينار، فانبرى أحد الشباب المصريين الطيبين وخض جيبه، فأخرج منها كمية وافرة من (الفكة)، أعطيته الدينار الورقي بعد أن أعطاني مثله من المعادن ثم زحفت إلى الأمام لأعطي الفتاة، سلمت النقود من يد إلى يد حتى تصل إلى الفتاة التي تقف في مقدمة الباص، وعندما وصلت النقود إلى يدها، نظرت قائلة (مو مشكلة عشو مستعجل؟) شكرتها لكنها لم تسمع فالضجيج كان يملأ الحافلة، مما اضطرني إلى الصراخ قائلا لها (شكرا كلك زوء)، فردت هي بكلمات لم أسمع منها شيئا، لكنني فهمت من ابتسامتها أنها كانت كلمات رد التحية.

 مشى الباص مرة أخرى، وكان السائق يلتقط كل من وقف على جانب الطريق، اكتظ الباص عن آخره، مما اضطر أحد الشباب إلى الصراخ قائلا  (شغل الكونديشين معلم انخقنا)، الرائحة في المقدمة عند النساء كانت رائحة (مكياجات) و(بودرات) وعطور صينية على الأغلب، لكنها على أي حال كانت أرحم من الرائحة التي كانت في الخلف عند الشباب فقد كانت رائحة (جربان) على كمون على زنجبيل على بهارات متعددة، حتى أن حاسة الشم عندي تعطلت عن العمل، ففي بعض المواقف تتعطل الحواس عن العمل خشية أن تصاب بالجنون لسرعة وعشوائية الإشارات القادمة !!

كنت أشاهد كيف تجتمع الفضيلة مع الرذيلة تحت سقف كابينة واحدة، فتلك الفتاة الطيبة التي دفعت عني في المقدمة هي الفضيلة، أما الرذيلة فكانت هي ذلك السائق الشرير الذي ما كان ليعبأ باختناق كبار السن والضعفاء بسبب الاكتظاظ الزائد عن الحد في سبيل تحقيق أعلى (غلة) ممكنة في هذه الرحلة المشؤومة !!

مضى الباص قدما، الشباب على حالهم، ذابلون، مختنقون، متعبون، ثلاثة أو أربعة شبان غالبهم النوم، لا أعتقد ان هناك من يستطيع النوم في مثل هذه الظروف، لكنني متأكد أنهم في حالة إغماء قد يكون سببها الرائحة، أو الحر الشديد، أو قلة الأوكسجين، بينما النساء في المقدمة يتحلقن حول السائق يضحكن، وجه السائق في المرآة يدل على أنه (منشكح) تماما، وعلى ما يبدو أنه كان يسرد لهن النكات  (نكات من العيار الثقيل)، حتى أن أحداهن نسيت نفسها وقامت بصفعه على كتفه، أكيد أنها كانت تقول (يخرب بيتك يا عمو شو دماتك خفاف) !!

استمر مسلسل التحميل والتنزيل، ولما كانت مجموعة من النساء يقفن على الرصيف، قام السائق بالدوس على المكابح، لكن فتاة تقف إلى جانب السائق قالت ( ان شا الله بدك تحملهم ؟؟) وهنا صاحت جميع الفتيات بغنج مصطنع ( لا اااااا عمو بليييييييييز)، ضحك السائق ثم تابع المسير، تلك (البليز) فعلت ما فعلت بالسائق، لأنه بعد ذلك دخل في صمت مطبق، كنت أراقب تعابير وجهه في المرأة، عيناه كانتا تذبلان شيئا فشيئا ... لقد كان يحلم !!

تناقصت حمولة الباص شيئا فشيئا، إلى أن جلس الجميع على المقاعد، بدوري بقيت في الخلف، يبدو أنني أدمنت، أو قد تكون حواسي التي تعطلت في بداية الرحلة ..، توقف الباص مرة أخرى، صعدت سيدة أربعينية، كنت انظر إليها، وهي تمشي نحونا، الغريب أن أحدا من الشبان لم يترك مقعده للسيدة، يبدو أن عادة ترك المقاعد للنساء قد انتهت، قررت أن أترك معقدي لتجلس عليه بدلا مني، لكن فتاة فليبينية تجلس أمامي فعلت ذلك، وفي هذا دلالة واضحة على أن منظومة الأخلاق الفليبينية تتفوق الآن على منظومة الأخلاق العربية !!

عشر دقائق ونصل، الكل يجلس في مقعده مطمئنا، لا أحد يقف باستثناء الفتاة الفليبينية التي تنازلت عن مقعدها لصالح السيدة الأربعينية، كنت أتوقع بأن يقول السائق (كلمة خير)، كان يقول : ( يا شباب حد يقعد هالبنت مكانو)، فهو الربان المسؤول،  لكن السائق كان في دنيا ثانية ...، لا زال يحلم !!

خمس دقائق ونصل، صعدت إمرأة أخرى، دفعت أجرتها، ثم نظرت عبر الممر باحثة عن كرسي شاغر، ولما ألتقت عينها بعيني، أومأت لها بأن تأتي كي تجلس مكاني ..،

جلست دونما أي كلمة شكر واحدة أو نظرة امتنان !!

لم أهتم، فقد اعتدت على قلة ذوق البشر، واكتفيت بالدعاء بأن يكون هناك مسمار على المقعد ..،
مسمار ؟؟

وهكذا رحت اتفقد بنطالي ولكن ولله الحمد لم يكن هناك أي ثقوب، فعدلت صيغة الدعاء بأن ينبت مسمار من المقعد.

نزلنا أخيرا، وسمعت فتاة عشرينية تقول لأمها : ( أوووف شو هالعزاب، الله يعين اللي بيركبو كل يوم)، لكن الأم المسنة التي على مايبدوأنها كانت تعاني من مشاكل صحية مؤخرا قالت لابنتها الشابة (على قلبي زي العسل، هالعزاب احلى من نومة المستشفى الخمس نجوم لحالك).

 في جوف الحوت كان هناك سائق جشع لا يعرف من الدنيا إلا تكويم النقود ولو كان هذا عن طريق تكويم البشر بغض النظر عن أعمارهم وأجناسهم وظروفهم الصحية، وفي جوف الحوت أيضا كان هناك فتاة تصرفت بفطرتها الطيبة غير أبهة بمجتمع أغلب شبانه من ذوي التفكير المريض، فقد يظن آخر أنها دفعت عنه لأنها أحبته من النظرة الأولى أو قد يردد قائلا (شو قصدها؟)، وفي الداخل أيضا كان هناك شاب مصري طيب اعطاني (الفكة) باسما، وفي جوف الحوت أيضا كان هناك فتيات خرجن إلى عمل بعيد في سبيل الحصول على المال الكافي لشراء (البودرات) و (المكياجات) والعطور الصينية، وفي جوف الحوت كان هناك رجال أغرقهم العرق كي ينالوا قوت يومهم، وفي بطن الحوت أيضا كان هناك أرملة خرجت إلى عمل بعيد في سبيل إطعام أولادها، وفي بطن الحوت كان هناك شابا يائسا بائسا، وعجوز قد كان وسيما في صباه لكن القهر والتعب حوله إلى مومياء، وفي جوف الحوت كان هناك فتاة فليبينية اخذت منا عادة تخلينا عنها، وفي جوف الحوت ايضا كان هناك شاب مقهور يدعوا بأن ينبت المسمار من المقعد ...،

ولكني لا زلت أفكر بالذي قالته السيدة المسنة أن الحياة في جوف الحوت مع البشر خيرا من الحياة في مستشفى من فئة الخمس نجوم  لوحدك .... 


www.osbo3yatjaber.blogspot.com