الأربعاء، 27 أبريل 2011

الأسبوع السابع عشر - شاهد على العصر



ما أشبه الليلة بالبارحة، حتى رتابة الأيام لا تستبدل ثوبها، عمل فقيلولة ولقاء صامت في المساء نتجاذب فيه أطراف التحية، ثم نسلم السمع لفوران الماء في أتون النرجيلة !!


الأيام رتيبة ومتشابهة، ولا تفاصيل تستحق السرد، إذا ما أردت أن أحدث الرفاق عن يومي، سيخال لهم بأني مصاب بـ"الزهايمر" أو أن أحدهم سيتندر علي قائلا : "الحلقة معادة" فبالضرورة أن الرواية مطابقة في الأحداث والشخوص والأمكنة للرواية التي سردتها قبل خمسة أعوام في هذا المقهى الذي أجلس فيه الأن !!

ولأن الطبيعة تكره الفراغ، سينضم إلينا ذلك الرجل العجوز لليلة السادسة على التوالي، ليملأ فراغ الصمت بحديث ذكريات لا يتوقف عند أي فاصل إعلاني إلا رشفة من الماء بين حين وآخر لدواعي جفاف الحلق الذي يسببه استمرار تدفق الكلمات دون توقف !!

رخامة الصوت ... الصلاة على النبي والتي تشبه المساحة البيضاء بين الفقرة والفقرة ... الرأس الأبيض ... حركات اليدين المتزنة، كل ذلك يجسد النقاء والأخلاق والفضيلة على هيئة بشرية، فيكون الحديث مصدقا، لتلقي السمع وتصبح مجرد أذن وتكتفي بهز رأسك موافقا على المتواتر تباعا من تلك الحنجرة العتيقة !!

ليلة الأمس ... كانت روايات الرجل العجوز أقرب ما تكون للأساطير، ولأن الزمار يموت ويداه تلعبان، خالجني الشك بصدق الحديث، فأنا سيء الظنون، ولكن نظرة إلى محدثي الرجل العجوز "البركة" جعلتني أستعيذ بالله من شيطاني وأتابع الإنصات !
نبرة العجوز تعلو وتحتد، وأنه يطرق المنضدة بقبضته معترضا على قلة البركة في هذه الأيام، وهو يحدثنا الأن عن الولائم العظيمة التي كان يقيمها في أيام الخير والبركة، تلك التي كان يفد إليها الأهالي من كل حدب وصوب، حتى أنه قال بأنه كان يستعمل "المايكريفون" لينادي الجالس في نهاية الطاولة !!

هنا تحديدا ... يتدخل صديقي الذي كان مغتربا، يتدخل مقاطعا للمرة الأولى منذ ست جلسات فيقول : " ايييه ... أيها الرجل العجوز، ذكرتني بأيام الخير في الغربة، كنا نقيم الولائم، فتأتي الجاليات العربية من كل فج بعيد، حتى أنني إذا ما أردت النداء على الجالس في نهاية الطاولة، استعمل الهاتف، والأنكى من ذلك أن المكالمة تسجل "دولية" !!

لا شيء يربطني بهذا المقهى بعد اليوم، وغدا سأنصب نرجيلتي في ركن مظلم بعيد، وحيدا سأجلس وأكتفي بسماع فوران الماء في أتون النرجيلة، فذلك خير من الجلوس لاستماع الأكاذيب، وظني السيء كان في محله، فسوء الظن من حسن الفطن، والأمر الذي شجع صديقي للتدخل هو عدم وجود أي شاهد على وليمته التي أقيمت في بلاد بعيدة، أما الرجل العجوز فلن يشهد على قصصه أحد، لأنهم بالضرورة ماتوا جميعا !!

إذن القاسم المشترك بين كذبات الرجلين هو غياب الشهود، والأمثولة التي حرت في تأويلها طويلا، تجسدت اليوم حقيقة تفصح عن نفسها أمامي، ففعلا " ما أكذب من شاب مغترب ... إلا عجوز ماتت أجياله " !!

لن أصدق بعد اليوم حديثا ولو أحدثت رخامة الصوت بي وقعا وتأثيرا، ولن أقيم وزنا لحركات اليدين مهما كانت موزونة، ولن يقر الكلام في قلبي وإن كان محدثي وقورا برأس كساه الثلج الأبيض عن آخره، وما تلك الصلاة على النبي التي خلتها مساحة بين فقرات نص القصة إلا وقوف اضطراري لاستذكار ما سبق سرده، حتى لا يضيع الترابط بين فقرات الكذبة! فيكون موقف الرواي مثل ذلك الشاب الذي كان يكذب على أصدقائه عن مغامراته في البرازيل، عندما قال لهم أنه سجل هدفا مزق شباك الخصم، فانقطع مضطرا عن سرد بقية الأحداث ليرد على الهاتف، سأل بعد أن أنهى المكالمة : " أين وصلنا "، فأجاب أحدهم : " عندما تمزقت الشباك، فرد الراوي : " نعم ... نعم، تمزقت الشباك، ورغم ذلك علقت بها الكثير من الأسماك وكان الصيد وفيرا والله الحمد " !!

اليوم أجد نفسي مكذبا لك ما قيل لي بأثر رجعي، ولو كانت جارتي العجوز "أم أحمد" حية ترزق، لطلبت منها الشهادة على ذكرياتها، بالذات تلك التي كانت تدعي فيها أنها كانت ملكة جمال تركيا في صباها !!

اليوم ... ومن أوسع الأبواب دخلنا إلى عصر التكنولوجيا، والشاهد الذي تعدل شهادته شهادة أربعة رجال ثقات يكون بالضرورة من مخرجات تلك التكلنولوجيا، فشهادة "يوتيوب" مرئية ومسموعة، وأمريكا التي تسوق لنا بأنها إمبراطورية الأخلاق لن تكتم شهادة "يوتيوب" عندما ينقل بالصوت والصورة مشاهد لفتيات يركلن بعضهن بعضا بوحشية من أجل سيجارة "ماريجوانا" في أحد أحياء "منهاتن" !!

والأنظمة الدموية القمعية لن يفيدها اليوم أي "سيناريست" مخضرم ليحبك الأكاذيب حول ما يدور في الشوارع والحارات، فالمطالب بحقه ذو سحنة "حورانية" أصلية وليس مندسا أو مرتزقة !!

فلا داعي لقطع الكهرباء بعد اليوم، فعصر الجرائم تحت جنح الظلام ولى إلى غير رجعة، فـ "يوتيوب" جعل اليوم بساعاته الأربع والعشرين نهارا، والضحية لن تنتظر خيوط الفجر حتى تتعرف على ملامح جلادها، وجدران المسلخ صارت شفافة مهما حاول الدمويوين أن يزيدوها سماكة وتسليحا !!

لن يطارد الشاهد بعد اليوم في أي ميناء أو مطار حتى يقتل وتدفن معه الحقيقة، "يوتيوب" حي يرزق موجود في كل زمان ومكان، لا يموت ولا يبتز ولا يشترى، محايد حد نشر الغسيل الوسخ لأي نظام، حتى لو أدعى هذا النظام أنه قلعة الصمود الأخيرة الباقية في وجه المد الصهيوني ...

"يوتيوب" متعاطف اليوم مع أي "يمني" أو "ليبي" أو "أموي" مل النظام الدموي !!
http://www.osbo3yatjaber.blogspot.com/


الأربعاء، 20 أبريل 2011

الأربعاء السادس عشر - مفترق طرق



كلما أقبل ضاق صدرها، وإذا ما أدبر فكأنما بتلك الصخرة الجاثمة فوق قلبها، صارت حبة من سكر لا وزن لها، هكذا كان حالها في عهده، فوجوده في المنزل يعني الأمر والنهي، وخروجه منه يعني السكينة والسلام !

اليوم ... وبعد مرور سنوات على خلعه "خلع شرعي" كبدها الغالي والنفيس، صارت تصر على بقائه إلى جانبها، وإن كان هذا البقاء، بقاء رمزيا، فهو مجرد صورة شمسية في حقيبتها الشخصية !

وماالذي يجعلها تتوق حنينا وشوقا لـ "ديكتاتور" كانت أكبر أمنياتها الخلاص منه إلا تجربة ثانية أشد إيلاما عاشتها في نار "ديكتاتور" آخر !

حرقتها تفتر قليلا كلما رأت حال جيرانها الشبان الأربعة، هؤلاء الذين يبكون ليلا نهارا أمام صورة بالأبيض والأسود على طرفها الأيمن شارة سوداء لوالدهم البخيل، يبكون اليوم بعد أن ابتهجوا لوفاته قبل سنوات، فقد كان من دأب "المرحوم" أن يسمح لهم ساعة العشاء بأن يغمسوا الخبز بماء الجبنة البيضاء دون أن يأكلوا قطعة واحدة، وعندما فرحوا لوفاته وقررواأن يأكلوا قطع الجبن القابعة في (المرطبان) لأكثر من عشرين عاما، أغلقت أمهم (المرطبان) وسمحت لهم بأن يضربوا بلقمة الخبز على الزجاج الخارجي للـ (المرطبان) فقط (عالريحة) !!

شيئا فشيئا ... تعتاد عيش الضنك، وتسلم رأسها لمشيئة الأيام، فهذي الأيام علمتها أن هذا القدر الذي تعيش قدر جمعي موسوم على كل الجباه الشرقية، وهي ليست بحال أفضل من أختها الصغرى التي قبلت أن تكون زوجة ثانية خشية أن تواجه الباقي من الأيام بمفردها، ولكنها نادمة اليوم على أيام العنوسة بعد أن رأت ما رأت من الأفعى _الزوجة الأولى _ التي لها من الأولاد قردة خمسة، وهي تقول اليوم " عانس ألف مرة ولا ضرة مرة " !!

صورة الفتاة الليبية التي تحمل العلم الإيطالي في أحد ميادين مدينة بنغازي، والتي تناقلتها الفضائيات لم تلاق أي انتقاد، ذلك لأن إيطاليا عضو رئيس في حلف "النيتو" الذي يساند الثوار، بيد أن للمشهد تأويلا آخر في رأس بطلة قصتنا، فالعلم رفعته يد اللاوعي للفتاة التي تترحم على أيام الإستعمار الإيطالي، وهذا العلم ليس إلا صورة للـ"مرحوم" مثل صورة زوجها المخلوع التي تحتفظ بها في حقيبتها، وللفتاة الحق في رفع العلم، فحكم الطليان أهون وأرحم من حكم العقيد المصاب بالصرع والـ"بارانويا" !!

هذا هو قدر الليبين إما العيش تحت مطرقة العقيد، أو التمدد فوق سندان الغرب !

وتسترسل المرأة في التفكير، وتتسأل : لماذا علينا كشرقيين أن نفاضل بين أمرين أحلاهما مر؟ ثم تستذكر العبارة التهديدية التي قالها آخر رئيس مخلوع " إما أنا أو الفوضى" ! و تمضي إلى الوراء أكثر لتتذكر حزب البعث العراقي الذي كان يهز أفئدة العراقيين، هذا الحزب الذي ولى لتنوب عنه تفجيرات تزلزل الأرض والسماء في بغداد !!

ثم تضحك من أعماق قلبها عندما تستطلع المشهد العربي، فهم إما موالون لأنظمة فاسدة أو منخرطون في صفوف معارضة من العاهات، ولا تعجز عن تعليل السبب، فالأنظمة والمعارضة سقطت من رحم التخلف الإجتماعي ذاته !!

لا داعي اليوم لاستذكار الحديث النبوي الشريف "اذكروا محاسن موتاكم"، هكذا تقول في سرها فهي في كل يوم تذكرهم بالخير وتترحم على أيامهم الذهبية !!

تتنهد ثم تقول بحسرة : " هذا هو قدرنا أننا عندما نقف على مفترق طرق فأن كل الطرق تؤدي إلى الهاوية " ثم تعترض : " هل هو قدر بفتح القاف أم أنه قدر بكسر القاف نغلي فيه حتى نتبخر ونتلاشى " !!

تستغفر الله ثم تقول : " الحمد لله على كل شيء " ، تغرق في الصمت، " الحمد لله " تقولها مرة اخرى، ثم تكتب على قصاصة ورقية صغيرة :


" أولادي ... إذا ما وقفتم على المفترق ... شقوا طريقا جديدا حتى لو كانت أداة الشق الوحيدة المتاحة هي ... أظافركم " !!
http://www.osbo3yatjaber.blogspot.com/


الثلاثاء، 12 أبريل 2011

الأربعاء الخامس عشر - الرصاصة الطائشة



توجه جبر إلى محل كي الملابس الموجود في الحارة(ابونضال ستيم) ليتأجر بذلة، فاليوم حفل زفاف (ابن خال اخو اخت جوز امه اللزم).

ماكاد جبر يلقي التحية حتى ترك ابو نضال مكانه من خلف (جحش الكوي) وهم بتقبيل جبر بحرارة المشتاق الذي انتظر الحبيب دهرا، مع أنه التقاه في صلاة الفجر وقبله، والتقاه في صلاة الظهر وقبله ( غريبة ظاهرة التقبيل المتفشية في المجتمعات العربية).
جبر: ( بدنا تأجرنا بدلة مرتبة هيك على زوءك).
ابو نضال: ( شو رأيك بالبدلة النيلي اللي جرافتها حمرا هديك)؟
جبر: (يارجل هاي اللي أجرها المرحوم ابوك للمرحوم ابوي يوم ما تجوز المرحوم ابوي المرحومة امي).
ابو نضال: ( طيب شو رأيك بالبدلة الزيتية اللميعة هديك)؟
جبر: ( يا ابن الحلال هاي اللي حضرنا فيها عرس فريد الاطرش في المدرج الروماني).
ابو نضال: ( يبقى ما الك الا الكموني هديك).
جبر: ( مش هاي يا زلمة اللي حضرنا فيها افتتاح مجمع بنك الاسكان).
ابو نضال: ( تاخد سفاري)؟
جبر: ( يوووه ... هو في حدة لسه بلبس سفاري).
ثم وقعت عينا (ابونضال) على بذلة أحد الزبائن، فوسوس له الشيطان أن يؤجرها لجبر، فوافق الأخير على الفور، ثم دفع بالورقة الحمراء في يد (ابونضال) وانطلق مسرعا نحو البيت، ثم صرخ (ابونضال) موصيا: ( دير بالك على البدلة هاي ماركة بسام لوران).

مع أن موعد الا ستحمام الشهري لم يحن بعد، إلا أن الحدث استدعى جبر إلى عقد (حمام طاريء).
خرج جبر من الحمام، ثم ارتدى البذلة، سرح شعره بعناية، ثم مسحه بكمية وافرة من زيت الزيتون (الجل الخاص بجبر) الذي يضفي على شعر جبر تلك اللمعة المحببة إلى قلبه!! ، اعتمر كوفيته(فوق الزيت)، ثم أنهى تأنقه بلمسات من ماء (الكولونيا) المفضل عنده، والذي ابتاعه من المؤسسة المدنية ( فريسكال النوع الذي يستخدمه الحلاقون)، والذي طالما امتدحه جبر بقوله (مالو رخيص وكويس وابن ناس)!! تأمل نفسه في المرآة ، تفقد شاربه الشبيه بشارب (هتلر) معجبا بوسامته : شعر لامع يظهر من تحت (الشماغ)، ملامح (مسمسة) رغم أنفه الشبيه بحبة الطماطم!! أخذ نفسا عميقا ثم تنهد مخاطبا نفسه : ( آآآآآآه، والله شيخ الشباب يا جبر، بس حظك قليل)!! لطالما حلم جبر بأنه عريس في حفل زفاف اسطوري، يجلس إلى جانب عروسه الفاتنة الشبيهة ب(سميرة توفيق)!!


في الثالثة بالضبط كان جبر في مجمع المحطة، واقفا في الطابور، في انتظار الحافلة التي ستقله إلى حيث حفل الزفاف في بلدة بعيدة عن العاصمة، أخيرا جاء الباص، وصعد جبر، واستقر في مكانه المفضل بجانب النافذة، وانطلق الباص (يخضخض بها الناس)، اقترب (الكونترول) من جبر طالبا الأجرة فأخرج جبر خمسة عشر قرشا من جيبه فرماه( الكونترول) بنظرة كنظرة النسر وقال: (الأجر عشرين يابا)
جبر: ( بس انا نازل قبل اخر الموقف)
الكونترول ( مش مشكلتي، بدك تدفع الأجرة كاملة )
جبر: ( لاء ما بدفع، الله ما قالها أنزل بنص الطريق وأدفع كل الأجرة)!
فما كان من (الكونترول) إلا أن قام بحركة (كونغ فو) خاطفة وأخرج موسى وأخذ يلوح به بسرعة أمام وجه جبر الذي انخلع قلبه وأصبح وجهه أبيض كالشبح، وصار الباص في لحظات (طعة وقايمة) ولولا تدخل (وجوه الخير) لأصبح وجه جبر عبارة عن مجموعة شوارع!! كل هذه المجزرة بسبب (شلن) أو على رأي جبر (شلم)!!


المهم أن جبرا وصل سالما معافى الى البلدة في وقت مناسب، وتوجه الى منزل والد العريس، ودخل الى (الشادر) وجلس يتبادل الاحاديث مع الموجودين في انتظار حفل الزفاف الذي سيبدأ بعد حوالي أربع ساعات!!


كان جبر سعيدا لرؤية ( مرعي) المقرب إلى قلبه، ومرعي هو أحد أقارب العريس، كان مرعي بين الفينة والأخرى يقطع الحديث ليضبط صوبة (الفوجيكا) مرة، وليضيف اليها (الكاز) مرة وهكذا، إلا أن هذا لم يمنع جبرا من الاستمتاع بحديثة مع (مرعي) الذي انتهى بعد لحظات قليلة بسبب حضور (المناسف) المكللة باللحوم والبقدونس!!


في ثوان قليلة كانت (المناسف) قد أحيطت بالرجال من كل حدب وصوب، أما جبر فقد اتخذ مكانه بجانب (مرعي) صديقه الحميم، شمر جبر عن ساعديه، وانكب فوق (المنسف) كالأسد الهصور، (واشتغل التكميس) .


استمتع جبر بالطعام لكنه أحس بطعم كطعم (الكاز) في (المنسف) لا يدري من أين أتى، لكن جبرا متأكد من أنه غسل يديه جيدا قبل الأكل، وقال في نفسه "ماعلينا" وظل جبر يأكل مرددا : (اللهم أدمها من نعمة واحفظها من الزوال)!!


كان جبر يتحدث مع (مرعي) اثناء الأكل، ولكن (مرعي) لم يكن يجيب، فنظر إليه جبر ليرى ما الأمر، فأذا بمرعي يأكل بتلذذ عجيب!!


انطلق موكب العرس متوجها إلى منزل العروس، وكان جبر سعيدا لفرح أقاربه، راكبا في السيارة يغني ويصفق وقد خلع عقاله وأخذ يلوح فيه مرددا بحماس أغنية ( اردن الكوفية الحمرا ، اردن الجبهات السمرا، هيه ،هيه، هيه) فجبر مواطن بسيط يعشق الوطن وأفراح الوطن!!


وصل الموكب بسلام، ونزل الجميع رجال ونساء وأطفال يركضون هنا وهناك، وقد سدوا الشارع من كثرتهم، خرج العريس والعروس من منزل والد العروس على أنغام الفرقة الموسيقية التي كانت تصدح موسيقاها في الشارع، كانت العروس في أوج انوثتها لولا ذلك الشارب الخفيف الذي يزين وجهها فوق الشفة العليا، أما العريس فقد كان رجولة حقيقية لو أنه ملأ بذلته قليلا، فقد كانت البذلة (مبحبحة) وعلى ما يبدو أنها بذلة أخيه الأكبر الذي عرف عنه بأنه (جهامي) ، مما جعل جبر والناس يظنون أنه ارتداها مع (العلاقة)!!


صنع الشباب حلقة دبكة وأخذوا يدبكون بفرح، فيما جبر في وسط الحلقة يقوم بالدبك والقفز مستعرضا مهاراته وكأنه في العشرين!! (اشتغلت الطخطخة) رصاصات تتطاير هنا وهناك والموسيقى تصدح والطبول تدق، كانوا يرقصون على أغنية (جيشنا جيش الوطن) وجبر يتطاير من الفرح ، يقفز ويدبك ويطلق (شلاليت ومقصات) في الهواء وهو ممسك بعقاله خشية أن يقع!!
وفجأة...
انطلقت رصاصة من فوهة أحد المسدسات وفي ثوان قليلة اخترقت الجموع لتصل إلى ... جبر!!
طارت كوفية جبر بعد أن أخترقتها الرصاصة التي لم تصب رأس جبر، ولكن جبر خارت قواه من فرط الرعب والهلع، وأحس بأن ساقيه لا تحملانه فسقط على الأرض وأحس بأن الأرض تدور من حوله، وزاغ بصره ولم يعد يسمع أو يرى شيئا سوى أضواء ساطعة وظلام دامس، وصوت طبلة، ونساء (تولول) وتصرخ، وأصوات رجال، وبكاء أطفال، ثم انقطعت كل الأصوات، ولم يعد جبر يرى شيئا، لقد أغمي عليه ...
استفاق جبر ليجد نفسه ممددا على نقالة (الدفاع المدني) وراح يتفرس في وجوه الحلقة البشرية المتجمهرة حوله والتي رفعت هواتفها النقالة لتصوير ضحية رصاصة العرس الطائشة في مشهد لطالما حلم جبر به، فقد كان يتمنى وهو صغير بأن يكون قبلة عدسات الكاميرات على غرار نجمه الشهير ملك البوب (مايكل جاكسون) مع الفارق البسيط بينهما لأن جبر كان ملك (الدبكة)، ثم تعالت الصيحات والهتافات والتصفيق والصفير ممزوجة بزغاريد النساء المزعجة وأصوات من هنا وهناك:( حمد الله على سلامتك يا حج).
قال جبر بصوت خافت: (حج؟ فجة تفجك فج، انته وياه، انا اصغر منك ومنو ولا).
تحسس جبر رأسه فلم يجد الكوفية، ثم قال (وين الشماغ)؟


ما هي الا ثوان معدودات، حتى أقبل طفل مسرعا وهو يحمل الكوفية والتي كانت تقطر زيتا من الثقب المتسع الذي خلفته الرصاصة الطائشة وناولها جبر قائلا:( خود عمو، فكرتها صحن فول من كتر ما عليها زيت)!!!


أخذ جبر يتفقد ملابسه كالمجنون صائحا: (البدلة، البدلة، والله لو صار فيها اشي ليدفعني ابو نضال حقها الشيء الفلاني، هاي ماركة بسام لوران)


فصاح أحد الشباب:( لا تخاف يا حج كلها على بعضها ما بتسوى عشرين ليرة، ما تخاف هاي بدلة صيني مش اف سان لوران!!


تحول العريس إلى سجن الجويدة، أما العروس فراحت تبكي وتندب حظها الأسود الذي لم يفلح بياض ثوب زفافها بالتخفيف من ظلمته، وقيدت الرصاصة ضد مجهول، وذلك المجهول هو الذي كان أول من صور جبر أثناء احتضاره على نقالة (الدفاع المدني)، وكان أول من أنزل المادة التصويرية على موقع (يوتيوب) تحت عنوان:




" ظاهرة اطلاق العيارات النارية...... الى متى"؟؟
http://www.osbo3yatjaber.blogspot.com/


الأربعاء، 6 أبريل 2011

الأربعاء الرابع عشر - نهاية رجل وسيم


تبدأ الأحداث عندما تصل تلك الشاحنة الصغيرة المحملة بالأثاث الأنيق، ليتم نقله إلى الطابق الثاني حيث الشقة التي كانت حتى الأمس فارغة، في الجانب المقابل ومن خلف النافذة الواسعة المجللة بالستائر، تبرز عين السيدة سلمى، لتتفحص المشهد بفضول بالغ، وتجول عيناها على الشاحنة وقطع الأثاث التي فيها وعدد تلك القطع وألوانها، وأشكال العمال الذين يحملونها، والرجل الواقف بجانب الشاحنة، والذي يبدو أنه الساكن الجديد، تفحصته السيدة سلمى جيدا، فعرفت طوله وعرضه ونوع النظارات الشمسية التي يرتديها وعدد شعيرات رأسه، تأملته جيدا وحدثت نفسها قائلة: يا لوسامته !! ثم ركزت بصرها على المرأة الواقفة بجانب ذلك الرجل والتي يبدو أنها زوجته، تفحصتها من رأسها حتى أخمص قدميها حتى عرفت نمرة حذائها ومن أين اشترته، تسلقت نظراتها المرأة رويدا رويدا _ أي عملية مسح ضوئي كامل _ حتى وصلت وجهها، فحملقت بكل ما أوتيت من قوة، حدثت نفسها قائلة: يا للهول: هل هذه الضفدعة هي زوجة ذلك الرجل الوسيم ؟؟ لا أصدق، سبحان الله، أنه النصيب !!

استدارت السيدة سلمى إلى الداخل ووقفت أمام المرآة تتأمل نفسها، تأملت وجهها الأبيض المستدير، وشعرها الأملس، تراجعت بضع خطوات إلى الوراء واستدارت دورة كاملة متأملة اعتدال قوامها وبطنها المستوية ورقبتها الطويلة البيضاء، خرجت منها "آها" متحسرة على نصيبها وخاطبت نفسها قائلة: آ آه، أما كان أولى بهذا الجمال أن يكون حريا برجل وسيم قسيم كذلك الساكن الجديد ؟؟ بدلا من "سيد قشطة" المتمدد على الكنبة بـ (الشباح) في الصالة، والذي لا يعرف كيف يفك الخط، ولا يقدر الجمال، وكل ما يفقه فيه هو أعمال البقالة، والإستلقاء عصر كل يوم على الكنبة لشرب معسل "رغلول" !! والمنادة على أهل المنزل ( وين الفحم) !!


بزغ فجر يوم جديد، ثم أشرقت الشمس، قامت السيدة سلمى من السرير مباشرة إلى النافذة للاستطلاع وممارسة هوايتها في التلصص على الناس والجيران، فوقفت عيناها على الساكنين الجديدين وبصحبتهما طفل صغير جميل، كانت خطواتهما بطيئة كعاشقين، كانت المرأة متشبثة بذراع زوجها ملتصقة به التصاقة أم خائفة على ولدها من الضياع، وكانت تلك النظارات الشمسية التي يرتديها الرجل تزيده وسامة فوق وسامته !! وفجأة وبدون سابق إنذار رأت زوجها "السيد قشطة" يمر من جانب الزوجين ذاهبا إلى عمله، تأملت المشهد جيدا، كان المشهد رومانسيا رائعا وناعما إلا أن ظهور "السيد قشطة" قد أطاح بكل الجمال والرومانسية!! كان يتدحرج بكرشه في الشارع كالكرة، وقد انعكست أشعة الشمس على صلعته لتصيب بوهجها عيني زوجته التي لم تعد ترى جيدا، ثم أطلقت آهة "حارقة"
يا إلهي هل هذا رجل وذاك رجل؟
وهل يكون نصيب "سيد قشطة" إمرأة مثلي ونصيب ذلك الوسيم إمرأة مثل تلك؟
آ آه ... والله لك كل الحق أن تتشبثي به ذلك التشبث !!
سمعت صوت الباب يفتح، فغادرت إلى الداخل لتجد جارتها السيدة مجد في الصالة مرتدية ملابس الصلاة حاملة طبق "البيتي فور" لتبدأ على الفور جلسة النميمة الصباحية المعتادة.


تحدثتا كالمعتاد، وكان فاكهة الحديث هو الجيران الجدد، تحدثتا مليا عن وسامة الجار الجديد، وقبح زوجته الشديد، وتباحثتا في قضية زواجهما، واضعتين الفرضيات والنظريات العلمية للزواج، الأولى افترضت أن الشاب طامع في ثروة تمتلكها تلك القبيحة، والثانية افترضت أن الفتاة لا بد أن تكون قد عملت سحرا للشاب المسكين، ثم عادت الأولى وافترضت أن الفتاة هي قريبة الشاب وأن والدته أجبرته على الزواج بها ..، وما بين الشاي والقهوة أكلت لحوم الناس، ثم قامت السيدة مجد واقفة وقرأت دعاء كفارة المجلس وسلمت ثم أدارت ظهرها وعادت إلى منزلها وهي تسبح وتستغفر !!


توالت الجلسات وفي كل مرة يتم مناقشة الموضوع نفسه، وهو "كيف يمكن لرجل وسيم أن يتزوج إمرأة قبيحة كالجارة الجديدة" !!


وبعد طول مناقشات وحوارات، استنتجت السيدتان أن من المستبعد أن يكون الشاب طامعا بثروة "القبيحة" لأن علامات الثراء لا تبدو عليها، فهما يسكنان بالأجرة، ولا يمتلكان حتى سيارة، كما استبعدتا فرضية السحر، فقد شاهدتها المرأتان غير مرة في دروس الدين التي تحضرانها، وقد بدت عليها سمات الطيبة الخلق القويم.


في كل جلسة تضرب السيدتان "أخماسا في ألأسداس" وتناقشان "قضية زواج الوسيم بالقبيحة" !!
مر شهر وفي كل صباح يتم التلصص من خلف الستائر، لترى السيدة سلمى الزوجين غاديين رائحين إلى منزلهما، وكلما شاهدت ذلك "الجينز الأزرق الذي يزيده جمالا ذلك القوام المسبوك الممشوق، تذكرت على الفور أيام خطبتها إلى "سيد قشطة" عندما طلبت إليه لبس بنطال من "الجينز"، ولما لم يجد واحدا على قياسه، قام بتفصيل واحد في تركيا إرضاءة لها، ليبدو فيه كـ(محقان الكاز) وذلك لشدة اتساع محيط الخصر، وشدة ضيق البنطال من عند الأقدام !!


وذات صباح وفيما كانت السيدة مجد تتلصص من خلف الستائر، كعادتها، تابعتهما بنظرها، وشاهدت فتاتين جميلتين تمران بالقرب من الزوجين، راقبتهما جيدا، لتلاحظ أن الوسيم بقي ماشيا بهدوء وأدب برفقة زوجته، لم يلتفت يمنة ولا يسرة، أزداد إعجابها به بعد أن لمست جمال أخلاقه وأدبه الجم، لتتحسر على نفسها، وتتذكر زوجها الذي لا تخرج معه إلى مكان إلا ويزوغ بصره هنا وهناك، ما يسبب لها الإحراج الشديد، والمشاجرات بعد العودة إلى المنزل !!


توالت الأيام ما بين تلصص وجلسات نميمة، إلى أن حدث أمر رهيب ...


فذات غروب هرعت السيدتان مجد وسلمى إلى نافذتي منزليهما بعد سماعهما أصوات صافرات الإسعاف وأصوات جلبة وصراخ، لتقع أبصارهما على مشهد مروع، عدد هائل من الناس مجتمعين على مدخل العمارة المقابلة، ورجال الإسعاف يحملون جثة إمرأة وطفل صغير، دققتا النظر جيدا لتكتشفا الفاجعة، إذ لم تكن المرأة إلا الجارة زوجة الرجل الوسيم، ولم يكن الطفل إلا ابنهما !! أرسلت السيدة سلمى ابنها ليستطلع الأمر ويأتيها بالخبر، فذهب وما لبث أن عاد ليخبرها، أن حادث اختناق في الحمام قد وقع للسيدة والطفل الصغير، وأنهما قد فارقا الحياة !!


ذهلت السيدة سلمى من المفاجأة ولم تعرف ماذا تقول، ثم سألت ابنها عن الرجل، فقال أنه سمع الناس يقولون أنه بخير ولم يصبه أي أذى. أخذت السيدة سلمى تضرب وجهها بغير وعي وتصرخ: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنها عين مجد، صدقت يا رسول الله " العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر" لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أعوذ بالله من عينك يا مجد ... أعوذ بالله!!


وفي الشقة المجاورة كان مشهد مماثل يتكرر، كانت السيدة مجد تضرب وجهها بغير وعي وتصرخ: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنها عين سلمى، صدقت يا رسول الله " العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر" لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أعوذ بالله من عينك يا سلمى ... أعوذ بالله !!


مر أسبوعان على الحادثة والسيدتان تترقبان خروج الرجل المسكين بلا فائدة، يبدو أنه في حالة حزن شديدة ومنغلق على نفسه إلى أن جاء صباح وخرج الرجل ...


السيدتان تراقبان، يا ألطاف السماء ... يا إلهي


شهقت المرأتان شهقة واحدة وعقدت ألسنتهما المفاجأة، كان الوسيم يمشي بنظارته السوداء، ويتحسس طريقه بالعصا التي كان قد استغنى عنها بعد زواجه، فقد رحلت من كانت عينه التي يرى بها الطريق ...