الأربعاء، 27 أبريل 2011

الأسبوع السابع عشر - شاهد على العصر



ما أشبه الليلة بالبارحة، حتى رتابة الأيام لا تستبدل ثوبها، عمل فقيلولة ولقاء صامت في المساء نتجاذب فيه أطراف التحية، ثم نسلم السمع لفوران الماء في أتون النرجيلة !!


الأيام رتيبة ومتشابهة، ولا تفاصيل تستحق السرد، إذا ما أردت أن أحدث الرفاق عن يومي، سيخال لهم بأني مصاب بـ"الزهايمر" أو أن أحدهم سيتندر علي قائلا : "الحلقة معادة" فبالضرورة أن الرواية مطابقة في الأحداث والشخوص والأمكنة للرواية التي سردتها قبل خمسة أعوام في هذا المقهى الذي أجلس فيه الأن !!

ولأن الطبيعة تكره الفراغ، سينضم إلينا ذلك الرجل العجوز لليلة السادسة على التوالي، ليملأ فراغ الصمت بحديث ذكريات لا يتوقف عند أي فاصل إعلاني إلا رشفة من الماء بين حين وآخر لدواعي جفاف الحلق الذي يسببه استمرار تدفق الكلمات دون توقف !!

رخامة الصوت ... الصلاة على النبي والتي تشبه المساحة البيضاء بين الفقرة والفقرة ... الرأس الأبيض ... حركات اليدين المتزنة، كل ذلك يجسد النقاء والأخلاق والفضيلة على هيئة بشرية، فيكون الحديث مصدقا، لتلقي السمع وتصبح مجرد أذن وتكتفي بهز رأسك موافقا على المتواتر تباعا من تلك الحنجرة العتيقة !!

ليلة الأمس ... كانت روايات الرجل العجوز أقرب ما تكون للأساطير، ولأن الزمار يموت ويداه تلعبان، خالجني الشك بصدق الحديث، فأنا سيء الظنون، ولكن نظرة إلى محدثي الرجل العجوز "البركة" جعلتني أستعيذ بالله من شيطاني وأتابع الإنصات !
نبرة العجوز تعلو وتحتد، وأنه يطرق المنضدة بقبضته معترضا على قلة البركة في هذه الأيام، وهو يحدثنا الأن عن الولائم العظيمة التي كان يقيمها في أيام الخير والبركة، تلك التي كان يفد إليها الأهالي من كل حدب وصوب، حتى أنه قال بأنه كان يستعمل "المايكريفون" لينادي الجالس في نهاية الطاولة !!

هنا تحديدا ... يتدخل صديقي الذي كان مغتربا، يتدخل مقاطعا للمرة الأولى منذ ست جلسات فيقول : " ايييه ... أيها الرجل العجوز، ذكرتني بأيام الخير في الغربة، كنا نقيم الولائم، فتأتي الجاليات العربية من كل فج بعيد، حتى أنني إذا ما أردت النداء على الجالس في نهاية الطاولة، استعمل الهاتف، والأنكى من ذلك أن المكالمة تسجل "دولية" !!

لا شيء يربطني بهذا المقهى بعد اليوم، وغدا سأنصب نرجيلتي في ركن مظلم بعيد، وحيدا سأجلس وأكتفي بسماع فوران الماء في أتون النرجيلة، فذلك خير من الجلوس لاستماع الأكاذيب، وظني السيء كان في محله، فسوء الظن من حسن الفطن، والأمر الذي شجع صديقي للتدخل هو عدم وجود أي شاهد على وليمته التي أقيمت في بلاد بعيدة، أما الرجل العجوز فلن يشهد على قصصه أحد، لأنهم بالضرورة ماتوا جميعا !!

إذن القاسم المشترك بين كذبات الرجلين هو غياب الشهود، والأمثولة التي حرت في تأويلها طويلا، تجسدت اليوم حقيقة تفصح عن نفسها أمامي، ففعلا " ما أكذب من شاب مغترب ... إلا عجوز ماتت أجياله " !!

لن أصدق بعد اليوم حديثا ولو أحدثت رخامة الصوت بي وقعا وتأثيرا، ولن أقيم وزنا لحركات اليدين مهما كانت موزونة، ولن يقر الكلام في قلبي وإن كان محدثي وقورا برأس كساه الثلج الأبيض عن آخره، وما تلك الصلاة على النبي التي خلتها مساحة بين فقرات نص القصة إلا وقوف اضطراري لاستذكار ما سبق سرده، حتى لا يضيع الترابط بين فقرات الكذبة! فيكون موقف الرواي مثل ذلك الشاب الذي كان يكذب على أصدقائه عن مغامراته في البرازيل، عندما قال لهم أنه سجل هدفا مزق شباك الخصم، فانقطع مضطرا عن سرد بقية الأحداث ليرد على الهاتف، سأل بعد أن أنهى المكالمة : " أين وصلنا "، فأجاب أحدهم : " عندما تمزقت الشباك، فرد الراوي : " نعم ... نعم، تمزقت الشباك، ورغم ذلك علقت بها الكثير من الأسماك وكان الصيد وفيرا والله الحمد " !!

اليوم أجد نفسي مكذبا لك ما قيل لي بأثر رجعي، ولو كانت جارتي العجوز "أم أحمد" حية ترزق، لطلبت منها الشهادة على ذكرياتها، بالذات تلك التي كانت تدعي فيها أنها كانت ملكة جمال تركيا في صباها !!

اليوم ... ومن أوسع الأبواب دخلنا إلى عصر التكنولوجيا، والشاهد الذي تعدل شهادته شهادة أربعة رجال ثقات يكون بالضرورة من مخرجات تلك التكلنولوجيا، فشهادة "يوتيوب" مرئية ومسموعة، وأمريكا التي تسوق لنا بأنها إمبراطورية الأخلاق لن تكتم شهادة "يوتيوب" عندما ينقل بالصوت والصورة مشاهد لفتيات يركلن بعضهن بعضا بوحشية من أجل سيجارة "ماريجوانا" في أحد أحياء "منهاتن" !!

والأنظمة الدموية القمعية لن يفيدها اليوم أي "سيناريست" مخضرم ليحبك الأكاذيب حول ما يدور في الشوارع والحارات، فالمطالب بحقه ذو سحنة "حورانية" أصلية وليس مندسا أو مرتزقة !!

فلا داعي لقطع الكهرباء بعد اليوم، فعصر الجرائم تحت جنح الظلام ولى إلى غير رجعة، فـ "يوتيوب" جعل اليوم بساعاته الأربع والعشرين نهارا، والضحية لن تنتظر خيوط الفجر حتى تتعرف على ملامح جلادها، وجدران المسلخ صارت شفافة مهما حاول الدمويوين أن يزيدوها سماكة وتسليحا !!

لن يطارد الشاهد بعد اليوم في أي ميناء أو مطار حتى يقتل وتدفن معه الحقيقة، "يوتيوب" حي يرزق موجود في كل زمان ومكان، لا يموت ولا يبتز ولا يشترى، محايد حد نشر الغسيل الوسخ لأي نظام، حتى لو أدعى هذا النظام أنه قلعة الصمود الأخيرة الباقية في وجه المد الصهيوني ...

"يوتيوب" متعاطف اليوم مع أي "يمني" أو "ليبي" أو "أموي" مل النظام الدموي !!
http://www.osbo3yatjaber.blogspot.com/