الأربعاء، 11 مايو 2011

الأسبوع التاسع عشر - لأننا هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية !!


موظف بسيط، أخرج من البيت متمتما بأذكار الصباح، قناعتي سر هدوئي، لا يستفزني الطابور الشبيه بأفعى عملاقة والذي أصطف فيه كل صباح؛ فلا مكان للتذمر والشكوى فوق لساني الرطب دائما بذكر الله، وليست هذه الشكوى التي تصدر مرارا من أفواه الزملاء في الطابور إلا قلة صبر منهم؛ فبعد قليل ستأتي حافلة النقل العام لتأكل نصف الأفعى بقضمة واحدة، صحيح أن الإنتظار يتسع أحيانا لإقامة حفل تعارف يتخلله وجبة إفطار خفيفة متبوعة بفنجان من القهوة، بيد أن الحافلة ستصل ولو بعد حين، كما أن تلك الشمس التي تظللنا بنورها الحار، تصبغ جلودنا بلون نحاسي مرغوب، تدفع لقائه النساء المخمليات ثمنا باهظا وهن يتنقلن بين شاطيء وآخر !!

أعصابي من جليد، لاشيء يستثير فزعي؛ فكل ما يرهبه بني الإنسان يمشي إلى جانبي كتفا إلى كتف، ولا يؤرقني مرضي الوراثي وهلة واحدة؛ فلا ريشة على رأسي حتى أكون غصنا ناشزا عن شجرة عائلتي آل "مطحون" التي عانت "متلازمة الفقر" على مر العصور !!

أشفق على الناس التي تركض خلف طموحاتها، فالطموح عندي رجس من عمل الشيطان؛ تفكير يحرمهم النوم والأحلام، أحلام يقظة تخل بأدائهم الوظيفي المقدس عندي، وإذا ما نال أحدهم المراد، عاش قلقا على منجزه، أما أنا فلا أخشى الحسد، رغم أن زملائي دائما يحسدونني لأنني لا أملك شيئا أحسد عليه !!

وحدها الأبواب ما يثير فزعي، لذلك أحرص على إبقائها مغلقة؛ فقد يكون خلف الواحد منها ألف باب، ضيق الأفق أكره التغيير، فأنا لا أعرف من العالم سوى بيتي وعملي اللذين أراوح بينهما يوميا، لكنني سعيد بهذا، وإن كنت غير ذلك، إذن ... فأنا لست من آل "مطحون" !!

مثالي بسيط، مخلص لعملي الذي يدر علي أجر يومي يكفي لتأمين صدري بعلبة سجائر وملء معدتي بوجبتي إفطار وغداء والعشاء عند الجيران، لا أفكر في الزواج مطلقا، وأكتفي بابتسامة فتاة "عانس" ذاهبة إلى عملها، فأسخر النشوة التي ولدتها تلك الإبتسامة في خدمة الصالح العام !!


الحياة التي رسمت خطوطها بشكل يتناسب وأفقي الضيق، ظلت هادئة إلى أن زارني جدي ذات منام، أنحنى ناظرا إلى كفي، ثم ما لبث أن غادر الحلم غاضبا، شمس الصباح، ابتسامات العوانس، وخدمة الجمهور، لم يتركوا لي أي حيز للتأويل، لكنه – أي جدي – عاود الزيارة في منامات متتالية، إلى أن عرفت التأويل، فذات إجازة خالية من المباهج وصلت بعد تفكير عميق أن جدي غير راض عن عدم زاوجي، بدليل أنه ينظر غضبان أسفا إلى كفي الفارغتين من أي محبس، فأنه رغم إدقاعه بأوحال الفقر إلا أنه كان يحث على الزواج والإنجاب؛ فقد كان مؤمنا بـ"المخلص" الذي سينتشل آل "مطحون" من الطين، كان مقامرا بالحلال، ولي من الأعمام 25 عم وعمة بؤساء، كانوا حصيلة لعب جدي وجدتي "القمار" في غرفة معتمة !!


حاولت الفرار من رغبة جدي؛ فوراء باب الزواج تحديدا مئة ألف باب، بيد أن محاولاتي باءت بالفشل؛ ففي المرة التي امتنعت فيها عن النوم، باغتني في غفوتي القصيرة على الأريكة المقابلة للتلفاز، وعندما ذهبت للنوم واضعا محبسا في يدي اليسرى، سرعان ما جاءني في أول النوم قائلا : يسبق الزاوج خطبة يكون محبسها في اليد اليمنى !!


القدر هو الآخر آثر الإنحياز؛ فالفتاة التي عينت حديثا في الدائرة تبدي اتجاهي ودا عز نظيره، تطمئن عن حالي دائما، تساعدني عندما يتكوم الجمهور حول شباكي ..، قالت لي مؤخرا أنني الوحيد الذي تراكبت كيمياؤه مع كيميائها ..، شيئا فشيئا وبمكر نسائي لفتني خاتما حول بنصرها، تعرجت خطوطي المستقمية، واستسلمت راياتي لرغبة جدي، وصار وجودي حول أصبع الفتاة محبسا معدنيا كدلالة على إرتباط رسمي !!


وليس صدفة هذا التوافق الكيميائي بيننا، فهي من آل "معجون"، وآل "مطحون" وآل "معجون" هما فخذان من عشيرة "بني مأزوم"، وهي قارئة جيدة في علم الأنساب، وقد شرحت لي عن جدنا الأول "مأزوم ابن أزمة" وكيف قاتل "فقر الدم" ببسالة، ونجا من أربعين فيضان اقتلعوا خيامه، وستين محاولة اغتيال من الجيش الإنكشاري العثماني لتخلفه المستمر عن دفع الضرائب !!


ما كنت أعلم أن الطريق إلى بيت الزوجية طويل مهلك، وحدها محابس الخطوبة تسببت بجفاف شهرين متتاليين، ولدور السينما والمقاهي حكاية أخرى، وفي الطريق صالة يستلزم الجلوس فيها ساعتين راتب عام كامل، وعندما قررت التحايل على الوقت، قدمت لــ"قرض حسن"، لكن حسن قصير اليد، والممنوح لا يكفي لنصب "شادر" يقام فيه حفل للشباب فوق سطح العمارة !!


وعندما استوطن اليأس أوصالي، صارحتها برغبتي في استرداد حياتي الأولى، لكنها تمكنت من إقناعي أن العسل كامن خلف الباب الأخير، ثقتها بعنفوانها وشبابها جعلت من الوقت مسألة ثانوية، ومرة كبرت في رأسها عندما أخذ بريق إعلان "سكن لطيف لمواطن خفيف" عينيها، وراحت تقتعني بأننا لو عملنا لساعات إضافية (تفوق بعددها ساعات العمل الرسمي) فأننا بذلك نستطيع تأمين دفعة أولى لشقة العمر، وزادت على ذلك بأن قالت أن المخلص المنتظر (أمل جدي) يجتاج إلى حاضنة دافئة لتفقس فيها مواهبه بأمان، فتلك المواهب هي التي ستنتشل آل "مطحون" من السخام !!


وبعد عامين من العمل المتواصل تمكنا من الإيفاء بالدفعة التي يتبقى مثلها ثلاث مرات، وما أن دفعنا المبلغ حتى هرب المتعهد، وصارت قضية "سكن لطيف لمواطن خفيف" قضية فساد كبرى، وضعنا نحن الصغار في متاهاتها، وفي أثناء ركضي المحموم ما بين دائرة وأخرى، علني أسترد جزء من شقائي، شخت دهرا، مما جعلني عازما على "فك الإرتباط"، وأغريتها بالتنازل عن دفعة الشقة (إن عادت) وباقي الحقوق الأخرى، لكنها كشرت عن أنيابها، وصرخت بملء صوتها وصرحت للمرة الأولى بأن زواجها مني ليس مشروع زواج "أجدب" من "جدباء" إنما تنفيذا لرغبة جدها الذي يزورها في المنام هو الآخر طالبا منها "مخلص" لآل "معجون" !!


وإلى الأمام مشيت فوق النار؛ فما عاد هنالك وراء، وبعد مخاض عسير ...


تزوجنا، وفي صبيحة العرس تم الطلاق !!


أرض المعركة كانت بعيدة جدا، والجيش المرهق أصلا سار المسافة مشيا، وظلام الطريق أورث في النفس الألم والحسرات، وتعاقب الفصول المتطرفة ببردها وحرها غلف الأسلحة بالصدأ ..،


كنت أبكي أمام صورة جدي راجيا منه العفو والسماح، أمسد شعري الأبيض وأردد :


لأننا هرمنا ... هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية !!

                                                                              نادر أحمد