عندما تعظم الشمس وتميل للاحمرار، يتناثر الصبية في الشارع حتى ليحسبهم الناظر أحجار سبحة انفرط عقدها للتو، وعلى إحدى الشرفات المطلة على الشارع، تقف أرواد السمراء ذات القلب الأبيض، وعيناها البنيتان قطعتان من البرونز اللماع لانعكاس الشفق الأحمر عليهما، وكلما داعبت نسمة منعشة وجنات الصبية، امتدت أبصارهم إلى الشرفة التي تقف فيها أرواد، اعتقادا منهم أن مرد تلك النسمات يد أرواد التي تلوح لهم بين الفينة والأخرى، فتلك اليد الكريمة التي لم تفرغ يوما من السكاكر التي يحبونها، صارت في عقولهم البريئة قادرة على وهب كل ما هو جميل، حتى لو كان هذا الشيء هو تلك النسائم المنعشة التي تنساب ساعة الأصيل بعد نهار صيفي لاهب.
تفتح أرواد كيسا من السكاكر، تغترف منه ما تيسر، ترفع قبضتها في الهواء عاليا:
" يا أولاد "، فيترك الصبية الكرة التي كانت تتعارك عليها أقدامهم وحيدة، ويندفعون إلى الرصيف الواقع أسفل الشرفة، تنظر أرواد إلى الأسفل ... أياديهم الصغيرة المرفوعة في الهواء، رقابهم المشرئبة إلى أعلى، أفواههم المفتوحة على اتساعها من الصرخات، " أنا ... أنا ... أنا"، كل هذا يجعل المشهد في عيني أرواد كأفراخ جائعة تتقافز متلهفة لالتقاط ما في منقار العصفورة الأم.
تغيب عينا أرواد لفرط ما ضحكت، ثم تسأل:
_ من منكم يشجع "مدريد"، فيرفع عدد لا بأس به من الصبية أيديهم " أنا ... أنا ... أنا"
_ من منكم يشجع "برشلونة"، مجموعة أخرى من الصبية ترفع أيديها عاليا، وتلاحظ أرواد أن بعض الأيدي ارتفعت عند السؤالين، فتضحك من قلب القلب على هذا المكر الطفولي، ثم ترخي قبضتها فتتساقط السكاكر على الأطفال، ويغرق المكان بالصخب والعفوية البريئة حتى يسدل الليل ستاره الأسود على ذلك المشهد الذي يتكرر في كل يوم.
هناك في الداخل، كانت عينا أم أرواد تناظر المشهد، ومقدار السعادة الذي تسكبه تلك الحالة في قلب أرواد، هو مقدار الحسرة نفسه الذي ينسكب في نصف قلب الأم الأيسر مع كل أصيل، فالطفلة التي كانت بالأمس تغفو بين ذراعيها، كبرت وكبر قلبها الذي كان بحجم قلب عصفورة حتى صار يتسع لأطفال الدنيا أجمعين، ولكن أم أرواد تعلم يقينا أن جوعة قلب المرأة لا يسدها إلا كائنا يسكن الأحشاء عاما إلا ثلاثة أشهر، وأن فرصة أرواد في الأمومة تتضاءل أصيلا بعد أصيل، كما يتضاءل نصف قلب أم أرواد الأيسر حسرة بعد حسرة، أما النصف الأيمن فقد ذاب شوقا منذ زمن إلى ابن وعدها بأن لا يطيل الغيبة أكثر من عامين، وها قد مر عقد من الأعوام ولم يعد.
وتمضي الأيام ...
وذات أصيل، بينما تعبر أرواد من أمام والدتها حاملة كيس السكاكر لتحجب عنها ضوء الشمس الذي يتسلل من النافذة الغربية للحظة، تستدعيها والدتها للجلوس إلى جانبها، وما أن تجلس أرواد حتى تضمها الأم إلى ذراعيها، ضمة كاد عظم أرواد أن يختلط بعضه ببعض لشدتها، ولقد كانت الضمة الأخيرة.
خمسة شهورة مرت على موت أم أرواد، وما أبطأ الوقت وما أثقله على قلب أرواد، وكأن عقرب الثواني يخز قلبها في كل نقلة، ولكن تلك الأحاديث التي كان يرددها أقارب أرواد من الرجال على مسامعها هي ما هونت عليها فجيعة الفقد، أحاديث عن ذلك النعش الذي كان يطير بخفة فوق أيديهم، وقبر ينتطر بلهفة أن يضم بين ضلوعه جثمان تلك المرأة الصالحة، وللحقيقة، ما كان هذا القبر إلا باب دهليز يصل الأرض بالجنة، ولكن النقطة السوداء الوحيدة التي كانت في تلك الجنازة هي أن من بين كل الأيادي التي تناوبت على حمل النعش، يدا واحدة غابت، هي يد أخوها الموجود في "المهجر".
وتتوالى الأيام، وفي إحدى الصباحات، تستيقظ أرواد على صوت رنين متواصل، ترفع سماعة الهاتف:
_ ألو ...
_ ألو ... أرواد كيف أنت؟
_ أهلا أسامة، أنا بخير، كيف أنت؟
_ أنا بخير والحمد لله، ولكن أين اللهفة التي كنت أسمعها دائما في صوتك؟
_ ألا زلت تسأل عن اللهفة يا أسامة، وعدت أمك بأن لا تطيل الغيبة أكثر من عامين، وفي كل مرة كانت ترجوك أن تعود، تقول لها عندما أحصل على الجنسية، وماتت أمك ولم تراك حتى في جنازتها، وتسأل عن اللهفة !!
_ حبيبتي أرواد، لو أنني أتيت، لما استطعت العودة مطلقا، فأنت تعرفين أن وضعي ليس قانونيا بعد، ولكن المحامي طمأنني أننا نسير في الاتجاه السليم، هانت يا أرواد ... هانت، والله أني مشتاق لك،
تخف نبرة العتاب التي كانت في صوت أرواد وتقول
_ وأنا أكثر يا أخي، يا ابن أمي وأبي
_ أرواد هناك صديق تعرفت عليه في المسجد، وسيأتي معي بأذن الله ليراكي،
تصمت أرواد هنيهة،
_ أنه شاب خلوق جدا يا أرواد، ومن رفاق المسجد
_ كما ترى يا أخي، كما ترى، ثم يتبادل الشقيقان الأحاديث المختلفة، ونبرة أرواد تزداد بهجة عبارة تلو والأخرى، فعلى الرغم من مؤهلها العلمي العالي، ومنصبها الرفيع في العمل، إلا أن كل الشهادات والمناصب تتساقط أمام لحظة حلم بأمومة.
تمضي الأيام ... تليها الشهور ... تليها السنين، وتتساقط الأوراق من على رزنامة الأيام ورقة بعد ورقة، وأرواد تزجي أوقات الإنتظار في الوقوف على الشرفة، وما كان وعد أسامة لها إلا حقنة صبر، فأسامة لم يدخل المسجد يوما، ورفاقه لم يكونوا إلا رفاق حانة وليسوا رفاق مسجد، وكلما سقطت على أرض شرفة أرواد دمعة، سقطت مقابلها دمعة أخرى في "المهجر" من فصيلة الدمع ذاتها، ولكن دمعة أسامة كانت دمعة ندم على نذالة اقترفها بحق زهرة رقيقة تركها في مهب الريح، ولكنه سرعان ما كان يجفف تلك الدمعة، بجرعة من الكحول أو سيجارة من "الماريجوانا"، أو في أحضان أنجلوساكسونية، مثلما يجفف باقي الرجال دموعهم، وأرواد تنتظر، وفي كل مرة يهاتفها، يحقنها بالصبر، وهي لا زالت في تصديق مستمر، فما أبيض قلبها،
ومرة ...يدخل إلى الحي رجل وسيم الملامح، فيتفرس بحنين مغترب كل ما تقع عليه عيناه، ويشرح للصبي الصغير الذي برفقته عن ملاعب طفولة أبيه، والفتى يهز بشعره الذهبي مبتسما، وقد غاب عن هذا المشهد العائلي ركن مهم اسمه الأم، لأن هذا الولد كان ثمرة جرعة زائدة من الكحول وغمامة من "الماريجوانا"، وهناك في شرفة بعيدة تقف فتاة اسمها أرواد، تحمل السكاكر وتنثرها فوق رؤوس الصبية، ولا زالت تحتفظ بالملامح نفسهاإلا أن شعرها صار بلون قلبها ...
http://www.osbo3yatjaber.blogspot.com/