الأربعاء، 17 ديسمبر 2014

الأسبوع الخامس والأربعون - عالبساطة البساطة




     قبل أكثر من خمسة وأربعين عاماً، ظهرت "صباح" بابتسامتها المعهودة النابتة من القلب، والتي يغيب فيها زوج عينيها الصغيرتين خلف وجنتيها؛ فيزداد ظلها خفة فوق خفة في عين المشاهد، وقرطين فضيين يتدلى منهما شراريب طويلة تتراقص فوق كتفيها كلما هزت برأسها أو التفتت، وفستان قرمزي قصير يلف قوامها الرشيق، مزنر بأشرطة فضية تتماهى في اللون وقرطيها وحذاءها الطويل، لتعلن من خلف شاشة التلفاز على جمهورها العريض المتابع لفيلم (أهلا بالحب) مبايعتها لـ"فريد شوقي" (ابو الدراويش) كأمير على عرش قلبها رغم البون الطبقي الشاسع بينهما الذي أراده المخرج، فهي المطربة الناجحة (دينا) وهو حارس الكراج (حسين) ابن الفقر أو كما نادته في الأغنية (ابو الدراويش) !!

(عالبساطة البساطة ... يا عيني عالبساطة) يأتي صوتها مثل ناي وهي تتلو البند الأول من نص البيعة، وما أن تدخل الموسيقى الأجواء حتى يُشعلها شهود البيعة رقصاً وتصفيقاً في حالة هستيرية من الصخب و البهجة، ثم تُفصح الشقراء التي يعلو رأسها ذيل فرس عن رغبتها واستحلائها العيش إلى جانب (ابو الدراويش)، وإن كلفها ذلك التخفف من مباهج الحياة وزينتها، واقتصار قوتها اليومي على وجبتين شبه نباتيتين، الأولى من الجبنة والزيتون، والثانية من البطاطا !!

تمشي "الصبوحة" بدلال مُفرط أمام (ابو الدراويش) الذي لا يملك أمام صولجان أنوثتها هذا إلا أن يضع يديه في جيوبه ويمشي خلفها منصاعاً بلا حول ولا قوة، وما أن تعلن بصوتها الجبلي الذي تجاوز في العلو قمة الجبل الذي يمشيان فوقه أنها تحلم برجل (طفران ودرويش الحال) حتى يركض نحوها مسرعاً، و يقلب بطانة جيوبه الخاوية خارج البنطال في إشارة تأكيد إلى أنه الرجل المطابق لمواصفات حلمها، ثم لا يلبث أن يتخلى عن وقاره ويلوح بيديه راقصاً عندما تريح قدميه من عناء المشي بحثاً عن شقة الأحلام، وتزيح عن كاهله عبء استدانة ثمن الأثاث، وذلك من خلال تصريحها القاطع بأنها تود العيش بمعيته في (أوضة صغيرة تنام فيها على الحصيرة)، ثم ترتسم على وجه (ابوالدراويش) ابتسامة عريضة تتكشف فيها اسنانه عن آخرها، عندما تضيف بأنها لا تريد مالاً وأنها تنازلت عن حصتها من (الفراطة) لغيرها !!

لم تتمن "الصبوحة" قصوراً ولا جاهاً، لا شيء في الأمنية إلا عاشقاً تهواه يغمر قلبها الصغير بحبه الكبير، وهنا يندفع الفارس الفتى الفقير (ابو الدراويش) ويحمل أميرته البرجوازية بحركة خاطفة دون أدنى مجهود، لتتهاوى كطفلة ضعيفة بين ذراعيه القويتين، مذكراً إياها بميزة أخرى للعاشق الفقير الوسيم : زند قوي يرد عنها بطش السنين والأيام، ومن أعلى الجرف تصدح "الصبوحة" حتى تُسمع الحجر والشجر بأن القصور التي امتلأت بالسعد والمال والذهب، لن تصد إمرأة عن حب الفقر بمجرد ايماءة من عاشق فقير صادق؛ جبنة، زيتونة، بطاطا، عاشق فقير صادق، لقمة تؤكل بشهية في أي برية، عيشة هنية بلا (خناقة ولا شماطة) غرفة صغيرة مفروشة بحصيرة كشرط اختاري؛ فلا فرق بين النوم على الحصيرة أو على البلاطة مادامت الأولوية للــ(النومة الهنية) كما جاء في آخر الأغنية التي أتمت فيها "الصبوحة" تلاوة شروط البيعة !!

تنتهي الأغنية ..، ويغادر المشاهد الفقير أجواء ستينات القرن العشرين، ويقفل عائدا إلى أجواء الألفية الثالثة التي وصل فيها الإنسان إلى ذرى العلوم التي مكنته من اكتشاف واختراع كل ما من شأنه تبسيط العيش على أخيه الإنسان، ليصبح العيش على (البساطة) واقعاً لا يقتصر حضوره على المسلسلات والأفلام، ناهيك عن العمل الدؤوب في السعي لتوفير الأمن والحماية للحلقات الأضعف في المجتمع الإنساني : منظمات غذاء لتوفير الرغيف لمن لا يستطيع، منظمات إغاثة للمنكوبين، منظمات صحة معنية بعلاج المرضى، منظمات تدافع عن حقوق الطفل والمرأة، حتى الحيوانات هي الأخرى لها منظماتها التي تدافع عنها !!

الحواءات لم يتغيرن، أمهاتنا اللواتي بايعن أباءنا على العيش على البساطة، لم يكنّ استثناء، كل زمان فيه الصالح والطالح، كثرة المتطلبات، وغلاء المهور، وغيرها من المبررات، كذبات اجترحناها حتى لا نخوض في حديث آخر عن فساد عالمي منظم وآخر محلي جعلا سقف أمنية الإنسان البسيط رغيفاً !!

 حول المشاهد الفقير الذي غادر أجواء الأغنية الظريفة للتو ألف "صبوحة" مستعدة لمبايعة فارسها الفقير على العيش على البساطة، إنما بساطة اليوم تغيرت عن تلك التي كانت على زمان "الصبوحة" وصارت شيئا ليس في متناول الجميع لعدم استيفاء شروطها، فالجبنة البلدية باهظة الثمن، أما الزيتون وزيته، فتلك حكاية أخرى لا تحضر على موائد الجميع، والبطاطا صارت مزاجية لا تزور البيوت بشكل يومي؛ فمزاجها مرتبط بمزاج المضاربين في بورصات الخضار، جيوب المشاهد الفقير خاوية مثل جيوب (ابو الدراويش) إنما لا بطانات قابلة للقلب في حال طلبت الأميرة الاثبات، لأنه لا بطانات أصلا بسبب خطأ مصنعي جاء في البنطال الذي اشتراه مؤخرا من سوق الملابس المستعملة !!، الحديث عن الحصيرة، حديث ثانوي سيأتي لاحقاً في حال إيجاد غرفة صغيرة في حي بائس يقل إيجارها عن راتبه وراتبها مجمتعين (ليجي الصبي بنصلي على النبي) !!، أما (الفراطة) فلن تستطيع الأميرة أن تسامح فارسها بها، ومرد ذلك تجربة مريرة عاشتها أيام دراستها الجامعية، عندما قام (الكونترول) الشرير بإنزالها من الباص لنقص الأجرة (شلن) !!، أما ذراعا الفارس فقد خارت قواهما لفرط الحروب التي خاضها في السعي خلف رغيف الخبز، وما عادتا قادرتين على حمل ريشة، أما بخصوص اللقمة الشهية في البرية، فلا يوجد سيارة أصلاً حتى يذهبا بها إلى البرية !!


بساطة اليوم لم تعد مثل بساطة الأمس، وصباح اليوم ما عاد مثل صباح الأمس يا صباح !!



 صفحتي على فيس بوك الكاتب نادر أحمد