الأربعاء، 19 ديسمبر 2012

الأسبوع الرابع والثلاثون - دعم على الفحم




     في الماضي المنتهي حديثا، كنت اسما بارزا في قائمة طويلة من البسطاء الذين ليس لهم قائمة؛ الأغلبية (الغلابى) التي تقطن بين مائين هندي وأطلسي؛ هؤلاء الذين أغلقت كل الأبواب في وجوههم فوقفوا (على باب الله) !!

لم يكن وجهي (فوتو جينيك)، بيد أنه كان قبلة الرسامين والعاملين في مجال (الجرافيك ديزاين) من مختلف أنحاء العالم، فقد كان فيه من الحزن والضياع ما يؤهله ليكون على غلاف أي رواية تتحدث عن البؤس والشقاء، ولو أنني كنت موجودا في زمان الأديب الإنجليزي " تشارلز ديكينز" لما تردد في وضع صورتي على غلاف روايته الأبرز التي تتحدث عن الولد المتشرد الذي ترعرع في ملجأ الأيتام "أوليفر تويست" !!

اليوم جاء عصري، قامت قائمتي التي محت اسمي من على قائمة البسطاء، تصنيفي الفئوي تغير، فبعد أن كنت من جماعة (على باب الله) صرت (ابن حكومة)، الوجه الطيب البائس تبدل  وأصبح غريبا عن المرآة التي صارت ترتعش من ملامحي التي تقطر شرا، عكس ما كان في السابق عندما كنت أشعر بأنها تضحك وتقول (يخرب بيتك شو أهبل)، كانت تتمنى لو أنها تصطبح بشيء جيد عكس الشيء البائس الذي يقف أمامها !!

وجهي صار (فوتو جينيك) ، لم يعد قبلة الرسامين والمصورين الباحثين عن وجه يزلزل وجدان الإنسانية، وجهي صار قبلة لصناع السينما والمنتجين لفرط ما تجسد فيه من الشر، أكاد أسمعهم ينادون بأن خليفة الممثل المصري الراحل "عادل أدهم" موجود في عمان !!

قصة انقلاب حالي تعود إلى مساء الرابع عشر من نوفمبر، ففي ذلك المساء كنت بين الكاف والنون عندما قال الله "كن"، فأصبحنا أنا والإخوة البسطاء إخوانا من أم واحدة اسمها "حكومة"، فعندما كنت مضطجعا في غرفتي وصوت "كاظم" الشاكي يضرب الجدران (منين اجيب الحظ للحظا نحس ... منين اجيب الحظ) وإذ بالإمام العادل رئيس الوزراء يطل علي عبر شاشة التلفاز ويعلنها دعما بقيمة سبعين دينارا من جيب الحكومة الخاص لكل مواطن فقير، أما أصحاب الدخل العالي فلا دعم لهم ..، تركت كاظم يواجه حظه السيء وحيدا، غادرت الغرفة مسرعا، رفعت أنفي إلى السماء، ثم وقفت أمام طاولة الطعام الجالس إليها أبي وأختي، رفعت أنفي إلى السماء وقلت " أنا مدعوم"، اتسعت عينا أبي حتى كادتا تغادرا محجريهما، توقفت حبة الفلافل في يده وقال ( خير من دعمك ... أخدت رقم السيارة ... رحت على المستشفى)، تبسمت وقلت "أنا وأنتم (ولاد حكومة)" ..، التمعت عين أبي بالشر ثم تبسم بخبث  ورمى ما تبقى من قرص الفلافل بين فكيه دونما أي شفقة !!

توجهت بعد أيام قليلة إلى المصرف كي أحصل على مخصصاتي المالية كـ"برجوازي" حديث الانضمام إلى النخبة المخملية، تفاجأت بطابور النبلاء الموجود هناك، فكرت في حيلة من من حيل الأيام الخوالي تمكنني من تجاوز هذا العدد الهائل من الناس: كأن أميل على قدمي فتشفق الناس علي فيضعوني على رأس الطابور رفقا بعاهتي المستديمة، بيد أني تذكرت بأني أصبحت من البرجوازيين، وأفعال زمن البؤس الماضي لا تليق بي الآن.

 انتظمت في الطابور، رحت أتأمل كل شيء حولي، بالأخص وجوه النبلاء : رجل سبعيني نظيف الفم إلا من سن واحدة صامدة فوق اللثة السفلية، امرأة سمينة حامل ومن أمامها طفل ومن خلفها ولد وعن يمينها بنت وعن شمالها مراهق وعلى يدها نام رضيع حديث الولادة وعلى مؤخرتها جلست طفلة ... حسبتها باص حضانة !! ولكني عندما التفت إلى الشارع من خلفي لمحت رجلا يجلس في سيارته المرسيدس كوبيه ينظر إلينا بوجه تملؤه الحسرة، فما كان مني إلا أن رفعت أصابعي الخمسة في وجهه مرددا بصوت مسموع "ومن شر حاسد إذا حسد" فجاءني صوت من أمامي "فأما السائل فلا تنهر" ثم تبعت الآية بـ (يما)، نظرت إلى صاحبة الصوت فإذ بها (حجة) طاعنة في التعب، وعلى ما يبدو أنها من علية القوم، فجلبابها الممزق على الطراز الحديث وبابوجها البلاستيكي يوحيان بذلك !!، أطرقت ... وبما أن عتابها كان من كلام الله رددت عليها بنبرة برجوازية  "أنطعم من لو يشاء الله أطعمه" فقالت (لا تقول هالحكي يما) هذا كان جواب الكفار الأغنياء للمؤمنين ليتهربوا من دفع الزكاة والصدقة، أطرقت قليلا ثم أردفت "وجعلنا بعضكم لبعض سخريا"، ورحت أشرح لها بأن هؤلاء سخرهم الله لنا نحن النبلاء، هم يكدون ويتعبون ويدفعون الضرائب ونحن نأتي لنأخذ المخصصات، وأسهبت في الشرح حتى وصلت إلى نظرية "مالتوس" السكانية، فصمتت (الحجة) حتى ظننت أنها فهمت ما أقول، لكنها قالت بعدما انتهيت (الله يكفينا شر الكهربا يما) !!

مرالوقت بطيئا، ظل الحاجز البشري الذي يفصلني عن موظف المصرف في تقلص حتى صار حاجزا زجاجيا فقط، ألقيت على الموظف المنهك تحية الصباح بلهجة أعجمية  - بحكم أني صرت من النبلاء – فنظر إلى الساعة المعلقة خلفه ثم رد ضاحكا "مساء الخير"، وبعد التأكد من اسمي ووضعي المادي الذي نزل عن (الحديدة) بمراحل، نقدني بـ ثلاثة وعشرين دينارا وثلاثة وثلاثين قرشا ثم قال " قيمة الدعم سبعون دينارا سنويا تدفع على أربع دفعات، بواقع دفعة كل أربعة شهور، تبسمت ببسمة هادئة متعالية وقلت بنبرة برجوازية (شكرا يا ابني) على الرغم من أن الشعر القليل الباقي على رأسه كان أبيض، إلا أن كلمة ابني يجب أن نقولها نحن البرجوازيون للكبير والصغير ذلك أننا أكابر القوم !!

في طريق العودة إلى البيت، كنت أفكر بتلك الحكومة الرؤوم، فعلمها بما ينفعنا وما يضرنا أكثر من أنفسنا دفعها إلى تقديم الدعم على دفعات، فهي تعلم أننا نحن – أي البرجوازيين – أيدينا مبسوطة ومثقوبة، تخاف إن سلمتنا الدعم كاملا من أن نذهب للتسوق في لندن و نقيم الولائم وحفلات الشاي وسهرات البيانو ..، يا سلام ما أكبرها من حكومة ... إلا أن ذلك لم يمنعني من إقامة وليمة صغيرة على شرف رئيس الوزراء، اتصلت بشقيقتي، سألتها ما إذا قد كانوا تناولوا طعام غدائهم أم لا، فجاء الرد بأن لا، وهكذا رحت إلى أحد المطاعم الهندية الشهيرة، سألني المحاسب "دجاج حار"؟ فكان ردي (حط) ثم عاود السؤال "أرز برياني" فقلت (حط) ثم قال "خبز بوري" تأففت قليلا وبحركة برجوازية نزقة من يدي أشرت له قائلا (حط كل شي ... كل شي)!!

(كل شي) هذه كانت رهيبة، فعندما نقدت المحاسب بالورقة النقدية المهيبة ذات الفئة الأعلى، رد منها دوائر معدنية بائسة، لكني تبسمت بثقة برجوازي عتيق قائلا (خلي الباقي عشانك).

 الأجواء في البيت كانت مثالية، كل متطلبات العرس الوطني كانت موجودة، أغاني وطنية حماسية تتخللها بعض الزغاريد، (بوسترات) لرئيس الوزراء، كنت في أوج بهجتي، الدجاج كان لذيذا جدا، حتى أني كنت أغني على طريقتي الخاصة (جاجك يا هالوطن جنة) عندما كان المطرب يردد بحنين مغترب كسرته الأشواق (ترابك ياهالوطن جنة)، كما أنه – أي الدجاج – كان حارا جدا، مما جعلني أنظر في الدجاجة مرددا (حتى نارك جنة) عندما كان المطرب يقول في مقطع آخر (حتى نارك جنة) !!

 انتهى العرس الوطني، وكما أسلفت فإن الدجاج كان حارا جدا، حتى أني شعرت بزفراتي النارية تكاد تحرق أحشائي – شعرت أني تنين – مما استدعاني إلى الخروج إلى السوبرماركت لأشتري مشروبا غازيا يطفيء لهب التوابل الهندية الحارة، وهناك لم أستطع مقاومة إغراء المكسرات المختلفة الأشكال والألوان، أخذت من كل صنف حفنة، وضعها البائع في الميزان، وأخذت المشروب الغازي وعدت إلى البيت بأياد عامرة وجيوب خاوية (طار الدعم) بيد أني لم أسمح لأي منغص بإفساد عرسي الوطني، كما أن عزائي في أن دعما آخر في انتظاري بعد ثلاثة أشهر كان كفيلا بترطيب مزاجي بعض الشيء، ولأني أحب أن أشرك الجميع في أفراحي وأعراسي القومية، كتبت على حسابي الشخصي على "تويتر" : "اليوم تناولت (جاج تكا) على شرف رئيس الوزراء،  لم نفسخ الدجاج سويا – أي أنه لم يكن معي – لكن الوليمة كانت على حساب معاليه" !!

لم تمضي خمس دقائق حتى جاء رد فعل من أحد الأصدقاء الثوريين مكتوب فيه "الانتخابات على الأبواب، في الماضي كنا نعاني من قذارة المال السياسي، اليوم تبدلت قواعد اللعبة ودخلنا في زمن (الجاج السياسي)"!! خمس دقائق أخرى حتى غرد ثائر آخر " تحولنا من مرحلة  شراء الذمم إلى مرحلة شراء البطون " !!

شرحت لهم بأن الوليمة ليست شراء ذمم أو مال سياسي، فرئيس الوزراء لن يترشح لمجلس النواب القادم، كل ما في الموضوع أن معاليه أعاد الأمور إلى مسارها الصحيح، وأعاد إلينا نحن النبلاء هيبتنا ووقارنا، لكنه الماضي الذي جعلهم يظنون بي ظن السوء هذا، فقد شاهدوني دائما عند مراكز الإقتراع في الدقائق الأخيرة من التصويت، كنت أمشي بجيوب فارغة مقلوبة إلى الخارج، في إشارة مني للمرشحين أن (مشوني بمشيكم) !!

ظلت أنفاسي حارة جدا حتى ساعات الليل المتأخرة، شربت الكثير من الماء، وهكذا حتى نمت، وفي صباح اليوم التالي وعندما استيقظت، وقفت ناظرا من خلال النافذة كما أفعل كل صباح، كان يوما باردا ماطرا، إلا أن هذه الأجواء لم تمنعني من رؤية أصدقائي الثائرين الذين علقوا على تغريدة الأمس متوجهين نحو المصرف !!
 كان البرد شديدا، هرعت مسرعا إلى (صوبة الغاز)، قدحة ... اثنتان ...  لم تشتعل، يبدو أن الغاز قد نفذ ..، أرسلت في طلب واحدة، فجاءتني محمولة على كتف العامل، وضعها على الأرض، سألته عن الحساب فجاءني الرد سريعا ( عشرة، كل سنة وانتة طيب يا باشا ) !!

 عشرة ... أي أنها نصف مبلغ الدعم !! أعطيته ما يريد وخرجت مني تنهيدة حارة جدا ... لا تذهبوا بعيدا ..، لم تكن تنهيدة قهر ..، إنه الدجاج الحار!!