الأربعاء، 23 فبراير 2011

الأربعاء الثامن - إيوان كسرى




كنت صغيرا، ومتعتي عند ركوبي لدراجتي الهوائية لا تدانيها أي متعة أخرى ... هذا أنا مذ كنت طفلا، أعشق الفضاء الرحب، وأكره الأماكن المغلقة.
وذات صباح عطلة صيفية، نزلت إلى الحديقة لأمتطي دراجتي وأنطلق في الشوارع والحارات، لكن الدراجة التي ركنتها ليلة الأمس في الفناء الخلفي للحديقة أختفت ... سرقت !
حزنت كثيرا، وحتى الجاهل الأمي الذي لا يعرف قراءة الوجوه، قرأ الحسرة في عيوني، ولكني لم أمت كمدا، وها أنذا حي أرزق ... وأكتب لكم.

وفي الشركة التي عملت بها في أول العقد الثاني من عمري، كانت هناك حافلة تقلني والموظفين من بيوتنا إلى الشركة وبالعكس، وكان مقعدي الأثير في الكرسي الكبير الخلفي المحاذي للنافذة، ولكننني صعدت إلى الحافلة ذات يوم لأتفاجأ بموظف جديد يشغل مقعدي، ولكني لم أقاتله بالسيف، وجلست في مقعد آخر صغير، ومع مرور الأيام تأقلمت معه حتى غدى محببا، لكن الأمور تبدلت عندما وظفت الشركة مجموعة من الفتيات، فاضطررت ومجموعة لا بأس بها من الشباب للوقوف ذهابا وإيابا، وكل شيء على ما يرام، فها أنذا حي أرزق ... وأكتب لكم.
وفي منتصف العقد الثاني من عمري، افتتحت مشغلا صغيرا، وعلى كرسي مكتبي كانت نشوتي، ولكن ...
" ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"
فقد تعثرت وجانبني التوفيق، وتراكمت علي الديون كما يتراكم الثلج فوق الدروب في ليالي العواصف القطبية، وبعت مشغلي بأبخس ثمن كي أتمكن من سداد بعض من ديوني، ولكني لم ألق حتى نظرة وداع إلى كرسي مكتبي، وضعت سترتي على كتفي، ورحلت إلى الأبد، وها أنذا حي أرزق ... وأكتب لكم.

طال جلوسي بلا عمل، وصرت عقيدا في جيوش البطالة، ورغم تجردي من كل المناصب، بيد أنني لا زلت أحب الكرسي، لذلك قمت باستغلال عرض "كارفور" واشتريت كرسيا بلاستيكيا ماركة "سامبا" بـ ( دينارين وخمس وسبعين قرش) ووضعته في حديقة المنزل، وهكذا صرت أنفث سيجارة الصباح وكوب "النسكافيه" وأنا جالس على كرسي العزيز تحت الشمس الدافئة، ولكن المار من أمام منزلي هذه الأيام سيراني أنفث سيجارتي وأشرب "النسكافيه" وقوفا، فقد سرق كرسي "السامبا" أيضا، ولم أمت غيظا وقهرا، وها أنذا حي أرزق ... وأكتب لكم.

وللحقيقة ... فأنا لم أحدثكم عن كرسي المفضل، لأنني أخجل من هذا، بيد أنني قررت اليوم أن أتجاسر على كل التابوهات، لذلك : يسرني أن أعلمكم أن كرسي المفضل هو ذلك الكرسي الذي وضعت صورته فوق أول الإدراج، وأني أسمي هذا الكرسي "إيوان كسرى"، فأنا لا أرتاح إلا على ذلك "الإيوان" ولا تأتيني الأفكار الصافية إلا وأنا أعتليه، وصدقا عندما يأتي يوم الثلاثاء وأعجز عن إيجاد موضوع لأكتبه في مدونتي "نكشة الأربعاء"، تجدني ألوذ إلى الحمام وأعتلي ذلك "الإيوان"، فتبدأ الأفكار بالتدفق الغزير، وأترجل من على "الإيوان" بموضوع كامل مترابط، وأجمل ما في هذا الكرسي أنه غير قابل للسرقة،
وقبل شهر، زارني ضيف ثقيل الوزن، وبعد أن تناولنا العشاء الدسم، دارت معدته، فاستأذنني الدخول إلى الحمام، وما أن صعد إلى "الإيوان" حتى انشطر "إيواني" إلى نصفين، ولكني لم أقتل ضيفي رغم الجريمة التي اقترفتها مؤخرته، فقد كسر عرشي و"إيواني" وحطم فؤادي، بل على العكس، قلت له : (فداك).

وفي ليلة الحادثة، لم يعرف النوم إلى عيني سبيلا، وأنا أفكر بالمصيبة التي قضت مضجعي، ولكني ساعة الفجر تذكرت (صندوق العجائب)، فأنا كلما فقدت شيئا نفيسا ألوذ إلى ذلك الصندوق، وذلك الصندوق هو (الجورة) أو (سوق الحرامية) في سقف السيل، حيث تجد ما لا يخطر على البال، وهكذا توجهت في الصباح إلى (سوق الحرامية)، وسرعان ما وجدت طلبي، "أيوان" فخم من السيراميك الإيطالي، ما دعا البائع لطلب ( 50 ) دينارا ثمنا له، ولأني (ابن سوق) تمكنت من الحصول عليه بـ(25) دينارا فقط، ولأنك تشتري القطعة من (سوق الحرامية) دونما ورقة كفالة، وذلك لأن البائع قد يسجن أو يختفي في ظروف غامضة بعد إتمام الصفقة، قمت باختبار "الإيوان" عندما استدعيت رجلين سمينين وأجلستهما عليه للتأكد من قوة مقاومته وتحمله، وبعد اجتياز الإختبار وضعت "إيواني" في (بكب) وعدت إلى البيت سعيدا مبتهجا.
وللأمانة ... فحتى لو لم أجد "إيوان" جديدا لتدبرت أمري، فللراحة طرق أخرى !!

أنا إنسان طيب ومسالم، وكلمة تأخذني وكلمة تأتي بي، وكل مسلم وعربي مثلي، كلنا خلقنا بقلوب مسكينة وطيبة سريعة الرجف والخفقان، ولو جاءني اليوم كل الذين سرقوا كراسي، والله لسامحتهم جميعا، ولكني أتعجب من حكام من بني جلدتنا يمطرون شعوبهم بالرصاص الحي وقذائف الطائرات والبوارج الحربية من أجل كرسي حقير لن ينزل معه إلى قبره !!
لماذا لم يبلغوني ؟ لكنت أرسلتهم إلى (سوق الحرامية) وليشتروا هناك ما شاؤوا من الكراسي والعروش !!

لقد علمتني الحياة أن الكراسي التي لا تزول، هي تلك التي ننصبها بحسن خلقنا ومعشرنا وطيبتنا في قلوب الناس، وعلى سبيل المثال، أنا شخصيا لا أطلب الكثير:


فالجلوس عندي في قلب إمرأة ... خير من الجلوس على عرش الكون.
ومهما قاتل الطاغية، ومهما استعمل من أدوات قمع شيطانية، فأنه زائل لا محالة ... فلا مكان له في قلوب شعبه
http://www.osbo3yatjaber.blogspot.com/