الضيق فسحة، ما دام في البيت إمرأة مدبرة تتكيف ومناخ جيب الزوج الصحراوي الجاف، تلملم خيوط الأزمات وتجدلها لتصبح فتيلا يضيء فضاء المستقبل، هذا ما كان يردده جاري الطاعن في السن والتجربة، ثم كان يستطرد قائلا : "لا زلت أذكر كيف كنت في طفولتي أمضي عاما كاملا بفصوله الأربعة في انتظار نمو قدمي حتى تملأ حذائي الواسع؛ فأمي المدبرة بامتياز كانت تتخيره واسعا حتى يدوم فترة أطول، كانت تضغط على مقدمة الحذاء، فإذا كانت مسافة الفراغ بقدر بوصة كاملة، تمت الصفقة وكان الحذاء من نصيبي، فقد كانت تقول أن أقدام الأطفال تنمو في الطريق بين دكان الأحذية والبيت" !!
أحيانا كان يساورني الشك في مصداقية الحديث، تحديدا عندما يهرش رأسه الأملس، ويكثر من الصلاة على النبي، فيكون ذلك مثل المساحة البيضاء بين فقرتين، فما الذي يدعو رجلا متين الذاكرة إلى التوقف عن السرد إلا محاولات منه لاستذكار الفقرة الأولى من الحديث حتى يؤلف فقرة ثانية مترابطة مع سابقتها، كما أن غياب الشهود – إذ مات أبناء جيله – يعزز شكي، بيد أني سرعان ما كنت أستغفر الله، وألوح بيدي من فوق رأسي مبعدا تلك الظنون المعترضة السيئة !!
اليوم ، وبعد مرور وقت طويل على هذه الجلسات التي كنت ألقي السمع فيها مثل تلميذ مثابر، وجدته يخطر على بالي، فأنا عندما تزوجت، فارقت الخصوبة جيبي وانتقلت إلى صلبي؛ فرزقني الله بأربعة توائم ملأوا علي وزوجتي فضاء بيتنا الضيق أصلا، وبعد أن خرجت سالما معافى من المرحلة الأولى في معركة التربية الطويلة (مرحلة الحليب والبامبرز)، دخلت إلى المرحلة الثانية (مرحلة المدارس) والتي وجدت نفسي فيها مضطرا لتطبيق "الرؤية الإقتصادية" لجاري العجوز، فأولية التعليم تفرض علي أن أقنن المصاريف في كل الأمور الأخرى.
زوجتي المدبرة والتي انفرجت اسارير وجهها عند سماعها للخطة، سرعان ما أدخلت البرنامج الإقتصادي الجديد حيز التنفيذ، ولأن الغزالة الماهرة تغزل بقدم واحدة، فقد كانت أحذية الأولاد أوسع بمقدار بوصتين وليس بوصة واحدة !!
نمت ملء جفني لما بالغت في الاطمئنان لهدوء الليالي، ولكن ولدي اقتلع السكينة من جوفي، عندما دفن رأسه في صدري باكيا؛ فقد أخبرني بأنه صار موضع التندر في المدرسة منذ اللحظة الأولى التي انتعل فيها ذلك الحذاء العملاق !!
لم أنم في تلك الليلة إلا لماما، وكنت ألعن جاري العجوز الذي أرادني خانعا مثله، فعلى الإنسان أن يتعلم السباحة حتى يخرج من الوحل، لا أن يستلذ الغوص فيه، وفي غفواتي القصيرة التي تخللت يقظتي الطويلة، رأيت كل الأحرار والثائرين : "جيفارا" بلحيته الدقيقة، "غاندي" بثيابه البيضاء والتي كنت أحسبها في طفولتي ملابس إحرام، وغيرهم الكثير ..، أشتعل الدم في عروقي، وما أن أطل النهار حتى وجدت قدمي تذهبان بي إلى الخطاط، والذي خرجت من عنده بيافطة عملاقة، أمتلأت عن آخرها بالمطالب، مطالب من مثل : عدالة إجتماعية، محاكمة الفاسدين، إعادة المال المنهوب ..، وما أثار دهشتي أن الخطاط ناولني طلبي قبل أن ألقي عليه السلام، وعندما رأى أن عيني تحولتا إلى علامتي تعجب، تبسم قائلا : " لا تتعجب، فعندما قرأت وجهك البائس، عرفت أي نوع من اليافطات تريد، واحتفاظي بعدد كبير منها مرده الطلب المتزايد عليها " وحده الخطاط المستفيد من هذا الفساد !!
استوقفني جاري العجوز فور عودتي من عند الخطاط، أخذ اليافطة من يدي، فردها في الهواء، وراح يتأمل فيها مثل خبير عتيق، ثم قال : " عليك أن تستبدلها بأخرى يكون قماشها إنجليزيا، كما يتوجب عليك أن تعدل عليها، طالب بإقالة رئيس الوزراء دون ذكر اسمه، طالب بمحاكمة الفاسدين دون ذكر أسمائهم أيضا"، بيد أني لم أحفل بما قال، فآراؤه عندي مجروحة، ولم يكن وقوفي معه إلا احتراما لتلك (الصلعة) المحفوفة بالشيب !!
وهكذا وجدتني أخرج من بيتي في كل جمعة، وفي يميني سجادة الصلاة، وفي شمالي يافطتي المطالبة بحقوقي، وما أن يسلم الإمام حتى أنطلق إلى الشارع هاتفا بمحاكمة "ناهب ابو السرقات" الذي هرب بأموالنا خارج البلاد، ومناديا بإسقاط الحكومة، حتى أنني رفعت الكلفة بيني وبين رئيس الوزراء، وصرت أنادي عليه باسمه المجرد، وفي المرات التي كانت ترمقني فيها زوجتي بنظرات الرثاء والشفقة، عندما كانت ترى وجهي الذي لوحته الشمس، وتسمع صوتي الذي جرحه الصراخ، كنت أرفع اليافطة عاليا وأقول لها : " هانت كلها جمعات معدودة، ويعود حقي، ونستبدل هذه اليافطة بمنقل للشواء، وتصبح جمعاتنا حفلات شواء !!
مرت أعوام ولم يتغير أي شيء، أختفى صوتي، وأحرقت الشموس جلدي، وهكذا وجدتني ذاهبا إلى الرجل العجوز، حتى أسلم له رأسي، فالأولاد صاروا اليوم حفاة، فرحم الله أيام الحذاء الواسع، وما كان طلبه مني بأن أستبدل قماش اليافطة بآخر أنجليزي إلا لتصمد في وجه التقلبات المناخية، لأن المسيرات سوف تطول، وتمضي عليها المواسم والفصول، وما طلب مني أن لا أكتب اسم رئيس الوزراء، إلا لعلمه بأني سأطالب برحيل كل رئيس جديد، فالكراسي تجلس على كراسي ليذهب الظالم ويأتي القاسي، لكنني عندما اقتربت من الكرسي الذي اعتدت أن أراه _ أي جاري العجوز _ يجلس عليه، وجدته فارغا
مات العجوز ولم يمت الفساد !!
جلست مكانه ... وكلما رأيت شابا يركب قطار الإصلاح، أنزلته عنوة وأركبته الطائرة !!
www.osbo3yatjaber.blogspot.com