الأربعاء، 2 يناير 2013

الأسبوع السادس والثلاثون - عائد إلى السرب



      سألتني جارتي السمينة التي كانت دليلي إلى بيت الفتاة البيضاء (المعدلة) التي تركت يدي ممدودة إلى الهواء عندما طلبت يدها، ما إذا كنت حزينا بسبب ذلك الرفض، تبسمت حتى صارت وجنتي مكان عيني أن لا شيء يستحق الحزن، ردت السمينة البسمة بالبسمة وأكدت أن الفتاة هي التي خسرت بسمة أجمل من بسمة إعلان معجون الأسنان "كلوز أب" !!
 وبلغة جسد تنم عن إنسان متفائل، ووجه باسم، رحت أشرح لها كيف أني أنظر إلى كل شيء في هذه الحياة بإيجابية عز نظيرها، وأن النجاح المدوي هو حاصل جمع تجارب فاشلة كثيرة، وأني سبقت أولئك الذين ينظرون إلى النصف الممتلىء من الكأس عندما ملأت كأسي حتى الحافة بالأمل، فلا فراغ موجود أصلا ! قالت السمينة بعد أن خرجت منها تنهيدة طويلة كادت أن تطيرني إلى الرصيف المقابل " أما أنا فلا كأس لي، فـ(البغل) زوجي كسر كل كؤوس البيت على رأسي، حتى ما عاد لنا شيء نشرب فيه " !!
مشيت وابتسامتي المعهودة تزين وجهي، بائع الخضار الذي باعني (ضمة) بقدونس ذابلة بسعر رطل من فاكهة الكيوي رد على تحيتي الصباحية له بـ(أهلين بسام)، فالناس هنا ينادونني بصفتي لا بإسمي الذي اختارته جدتي لي على عجل ثم ماتت دون أن تكلف خاطرها برؤية ذلك النادر ..، دائم الابتسام، حتى أن أحدهم قال لي ذات يوم أن ابتسامتي مثبتة على وجهي بـ"سبراي تافت" للأجواء الثلاثة، وحقي أن أكون (بسام) وليس (نادر) ..، (أهلين بسام) قالها صاحب البقالة الذي باعني الشهر الماضي علبة تونا منتهية الصلاحية بعد أن رفعت له يدي محييا، ولأنني كما ذكرت إيجابي لم أحسب أن بائع الخضار غشني عندما باعني البقدونس بسعر الكيوي، إن هذا إلا وضع للأمور في مسارها الصحيح حتى تشعر الناس بالقيمة الغذائية العالية للبقدونس، ولولا علبة التونا الفاسدة لما حظيت بغسيل معدة أعادها نظيفة مثل معدة طفل حديث الولادة !!
إيجابي وأعرف المقاصد من المواقف الصعبة، فعندما أكون ضمن الواقفين الذي يتجاوز عددهم ثلاثة أضعاف عدد الجالسين في حافلة النقل العام، أعلم أن الحكومة تستطيع تأمين حافلات أخرى، إنما هي "بروفة" وتذكير بيوم الحشر حتى تظل الناس قريبة من الله، وإن لم تخل هذه الـ"بروفة" من الضحايا من كبار السن والمصابين بالربو شأنها شأن المناورات العسكرية التي تكون فيها احتمالية الموت واردة، فالحكومة تسعى لتأمين مواطنها في الدارين الأولى والآخرة !!
الصورة في عيني ملونة، درجة الحدة فيها عالية، أدخل إلى الأحياء العشوائية فأراها لوحة سريالية  هاربة من فرنسا : عمارات اسمنتية بألوان داكنة وأخرى باهتة ( حسب درجة الرطوبة التي عشعشت فيها) هوائيات مائلة بفعل الرياح، صحون لاقطة سوداء وبيضاء وأخرى بلون الصدأ، غسيل متدل من الشرفات مختلف الأشكال والأحجام الألوان (حسب المتاح في سوق الملابس المستعملة)، وأروح بعيدا في ايجابيتي عندما أحاول أن أفسر كل تفصيل في اللوحة، فأتوقف مثلا عند تفصيل الغسيل المنشور وأتفحص بعناية سجادة الصلاة المنشورة بجانب حمالة الصدر؛ وأذهب في تأويلي إلى أن الرسام قصد أن يجسد في لوحته التعايش السلمي بين الفضيلة والرذيلة في هذا الحي المتسامح !!
  وأعجب من متشائم جاهل يدعي بأن رؤية هذه الأماكن و الأحياء تسبب التلوث البصري، وأعزو جهله هذا إلى تدني ذائقته الفنية، فلما كانت أوروبا نظيفة ومنتظمة حد الرتابة، ذهب فنانوها مذهب العشوائية فامتزجت الألوان الحارة بالباردة فوق اللوحات الزيتية، ونحتت تماثيل لنساء برؤوس حيوانات، وأخرج الفنانون ما في رؤوسهم من خيال وأحلام، وما في عقلهم الباطن إلى العلن ليدعوا ولادة الفن السريالي فوق أراضيهم وهو مولود هنا أًصلا !!

محكوم بالأمل والتفاؤل ولامكان للتشاؤم في عيني، فأنا أريد أن أجد لجناحي مكانا في السرب الذي سبقني في التحليق عاليا إلى حياة مثالية، فقد طال مكوثي على الأرض وحيدا؛ أريد أن أخطب فتاة لا أمل الجلوس مع والدها الذي سأزوره كل يوم بكف حاملة لـ(صفت بقلاوة) عامر، أريد أن يحدثني عن زمانه زمان البركة وكيف كانوا (على البركة) عندما كان اليهودي يحاضر في أعتى جامعات العالم، أريد أن يحدثني عن أصول غلي الجبنة البيضاء وفن (كبس المخلل) في زمن هيروشيما والقنبلة النووية، أريد أن يحدثني عن زمن الرجولة الخشنة، وعن بأسهم الشديد في كل المعارك الخاسرة التي خاضوها، أريد أن أؤسس لحياة زوجية مبنية على التفاهم : المهر، الذهب، الصالة الفارهة حتى أرضي العجائز الخرفين من العائلتين، أريد أن أشتري سيارة (أفانتي) مستعملة يتزامن قسطها الأخير مع آخر يوم من عمري، أريد أن أصطف في طابور المركز الصحي حتى يحظى ابنائي بالحقن المناعية التي تقيهم شر خمسين مرض معد وعشرين وباء فتاك، أريد أن تشغلني عائلتي عن نفسي حتى لا أجد وقتا لحلاقة ذقني؛ حتى يتدلى (كرشي) مثل شرفة مخالفة للمواصفات والمقاييس الهندسية؛ حتى (يسحل) بنطالي فيظهر جزء يسير من مؤخرتي كلما انحنيت ... أريد أن أعيش ... أريد أن التحق بالذين سبقوني ...

أريد أن أحلق مع السرب عاليا..، بغض النظر إن كان هذا السرب مؤلفا من نسور أو أغنام !!