الأربعاء، 30 مارس 2011

الأربعاء الثالث عشر - حياة إنسان عربي كوفلية - خوف - كفن




في البدء ... مجرد رضيع كبقية أقرانه، ملفوف بـ(كوفلية) بيضاء، وعلى الغصن المقابل لنافذة الغرفة التي ولدت بها، ثمة يرقة ملفوفة بشرنقة بيضاء، تكبر اليرقة، ثم تخرج من الشرنقة فراشة تطير، أما أنا فأسقط من (الكوفلية) لأحبو على أربعة، حالي حال بقية الزملاء من الفقاريات !!


حدثتني أمي عن شقاوتي أيام الحبو، قالت لي : " كنت كثير الحركة سرعان ما تختفي عن أنظاري، وبعد بحث مطول عنك تنهار فيه أعصابي، أجدك أسفل سرير، أو داخل البوفيه ! وكانت لك هوايات غريبة كالعبث بـ"أباريز" الكهرباء، ولكن قلبي لم يطاوعني يوما لأصفعك على يدك حتى ترتدع، فأوكلت تلك المهمة العسكرية لأبيك ... تجهم وجه أبيك حتى صار معقود الحاجبين، ثم دنا منك وقال : ( كع ... كع) ومنذئذ وأنت تتحاشى حتى النظر إلى تلك "الأباريز" ! !


ولا غرو أن خوفي من الاقتراب أو النظر إلى تلك "الأباريز" كان خشية أن يخرج وجه أبي المتجهم منها، ولكن تلك الـ(كع) التي رافقت مشهد الردع استقرت في داخلي وصارت شرطيا يرافقني في حلي وترحالي. كبرت قليلا ... وغدوت أمشي على اثنتين، كان نشاطي زائدا، لا أعرف الاستقرار على مقعد، كنت أقفز هنا وهناك، على الأريكة، على طاولة السفرة، كنت مصدر إزعاج حقيقي، ولما بلغت الأمور حدا لا يطاق بالنسبة لوالدي الذي يحب الهدوء، هددني بـ(العو)، حتى تخيلت أن الـ(العو) سيقضم قدمي إذا ما امتطيت الأريكة، أو إذا ما قفزت فوق طاولة السفرة، وهكذا صرت أعد الألف قبل الإقدام على فعل أي شيء، وكبر هذا الشرطي الذي يقبع في داخلي، فقد صار مزيجا من (الكع) و (العو) !!


دخلت المدرسة ... ولم تكن الأمور على قدر كبير من السوء في المرحلة الابتدائية، فكل المعلمات كن لطيفات معي لولا معلمة اللغة العربية السمينة التي كانت علاوة على ضربنا بيدها الغليظة والتي يتساوى حجمها بحجم فخذ العجل، تقوم بتهديدنا بوضعنا في غرفة الفئران، حتى صار جل همنا العثور على تلك الغرفة، ولأننا لم نجدها، فقد راح خيالنا الطفولي يزيدها رعبا !!


يا لحظي العاثر حتى في صباي ... فحصة اللغة العربية كانت يومية، لذلك كان علي أن اصطبح بتلك المعلمة السمينة كل يوم، وفي بعض الأيام أصطبح وأمسي ! ... لهذا صار جرس نهاية الدوام المدرسي الترنيمة الأحب إلى قلبي !!


ولكن ... ما كل ما يتمناه المرء يدركه، ففي ذلك البيت الذي كنت أبغيه جنة هروبي من يد المعلمة السمينة، ستكون جدتي في انتظاري، وستجبرني في كل يوم على تناول الأكلات التي كانت تعدها، أكلات من مثل (مسخن – مقلوبة – فول أخضر) وذلك حتى أنمو وأكبر على حد زعمها، وكم كنت أكره تلك الأكلات، ولكني كنت أرضخ لرغبات جدتي تحت التهديد باستدعاء (الغول) لتأديبي، ولأني لست على سابق معرفة بالمدعو (غول) فقد أخذت ريشة الخيال ترسم ملامحه، وأخيرا تخيلته رجلا ضخما مخيف برأس (عو) !! انتهت المرحلة الابتدائية، مخلفة في داخلي شرطي جسده جسد (غول) وذراعه (كع) ورأسه رأس (عو) !!
ملل ... ملل ... ملل
ماذا أفعل في هذه العطلة الصيفية التي تفصلني عن المرحلة الإعدادية ؟ ولماذا لا أملك دراجة هوائية أزجي بها ساعات النهار الطويلة كبقية أقراني ؟ وهكذا قررت أن أحدث والدي بالأمر، ولكن والدتي ما أن سمعت بكلمة (دراجة) حتى وضعت يدها على قلبها واستعاذت من الشيطان ثلاثا، وراحت تسرد علينا قصص صبية قضوا تحت عجلات السيارات وهم في عمر الزهور، وللحقيقة ... فأن أمي معها كل الحق في هذا، فقد رأيت أنا أيضا كيف أن الشارع كان آخر مكان وطئته قدما ابن جيراننا قبل أن تقذفه سيارة مسرعة إلى الدارالآخرة، وذلك على الرغم من أنه كان ماشيا بتأن على قدميه، فماذا أقول أنا الذي كنت أحلم بدراجة أسابق بها الرياح، صار الشارع (بعبع) حقيقيا بالنسبة إلى، فأنا لا أعرف (الغول) ولا (الكع) ولا (العو) ورغم هذا فأني أحذرهم حذرا شديدا، فما بالكم بالشارع الذي رأيته وهو يقتلع طفلا صغيرا من الحياة ؟ّ!


ولكن ... للحلول الوسط دائما مكان، لذلك عاهدت أبي وأمي أن أمشي بالدراجة فوق الرصيف فقط، وأخيرا ...وبعد جهد جهيد أقتنع الوالدان وهاهي دراجة الـ(بي ام اكس )الزرقاء خارجا بانتظاري ليبدأ عهد جديد من المغامرات والمرح الطفولي، ولو أن خروجي من باب الحديقة على الدراجة كان يتطلب بعض "البروتوكولات"، ذلك أن العهد الذي قطعته أمام أمي بالتزام السير على الرصيف لم يمنعها من قراءة المعوذات وأية الكرسي وتحويطي بالله وملائكته عند كل مغادرة !!


ولكن ... لماذا تطاردني ابنة الجيران "تغريد" بنظرات متحسرة كلما مررت ممتطيا دراجتي الزرقاء من أمام بيتها ؟ لا بد أن "تغريد" فقيرة مثل بائعة الكبريت أو "كوزيت" اليتيمة التي ظهرت في رواية البؤساء، هذا ما أملاه علي خيالي الطفولي وقتها، ولأنني كنت معجبا بشجاعة " جان فال جان"، عرضت عليها أن تقود الدراجة (شوط) وأنا (شوط) آخر، لكنها امتنعت لعدم معرفتها فن قيادة الدراجات، فهي لم تفعل ذلك من قبل، ولكن هذا الولد الذي كنته في ذلك الزمان المقتدي بـ"جان فال جان" والمصر على إٍسعاد "تغريد" أسوة بمثله الأعلى "جان" لم يكن ليرفع الراية البيضاء بتلك السهولة، جعلت "تغريد" أمامي، أمرتها بالتمسك جيدا بالمقود، أحكمت السيطرة على الدراجة، وانطلقنا ... كان الهواء منعشا رطبا، وشعر "تغريد" الحريري يتطاير على وجهي، ورائحته الزكية تعبق في أنفي، كان شعورا رائعا، جعلني أعرف حينها، لماذا غنى "عبد الحليم" أغنيته الشهيرة "حاجة غريبة" عندما ركب الدراجة برفقة "شادية"
... دورة ... دورتين ... ثلاث، وعلى مايبدو أنني لن أنتهي من الدوران، فشعر "تغريد" برائحته الزكية يجعلني خارج الزمان والمكان، وأنا الأن مغمض العينين، وقدماي تتحركان بشكل آلي، ولكن صراخ "تغريد" يقطع الحلم، أحذر ... أحذر ... أحذر أفتح عيني لأرى أمامي مباشرة البقال (ابوراتب)، ظهره إلينا وهو يدخل صناديق "البيبسي" إلى داخل دكانه، وبسرعة يستدير "ابوراتب" بكرشه الكبير نحونا بسبب صراخ "تغريد" _ يا للشيطان ! من أين ظهر هذا الـ"ابو راتب" ليقطع حلمي !! ولكن "ابو راتب" يتسمر في مكانه من هول المفاجأة، الفرامل ... ولكنها لا تعمل ... اللعنة، ثم يتسارع الزمن فجأة، يقترب (الكرش)، يكبر ... يكبر ... حتى تصبح الدنيا كلها (كرش) ... كرااااااك ...، كل ما أذكره من تلك اللحظة الرهيبة، أن الناس كانوا يحاولون سحب رأسي أنا و "تغريد" من (صرة) العم "ابو راتب" !!


هكذا يكون مصير ولد طيب غلب الجانب الخيالي على الجانب الواقعي من عقله ( أن يعلق في صرة ابو راتب) !! هذا ما جناه "فيكتور هوغو" علي، فكيف ظننت يومها أن "تغريد" فقيرة ولا تملك ثمن الدراجة وهي التي كانت تسكن في الـ"فيلا" المقابلة لبيتنا، ولكنه خيالي الأحمق، وتعلقي بـ"جان"، ولم أكتشف إلا متأخرا أن السبب في عدم شراء أهل "تغريد" دراجة هوائية لها هو خوفهم على غشاء طهارتها، ذلك الغشاء الذي تعد سلامته في الشرق أهم من سلامة القلب !!


أنها المرحلة الاعدادية ... وها أنذا أدخل من باب المدرسة الخارجي، لأشاهد الأعداد المهولة من الطلاب، اصطف في الطابور الصباحي مع المصطفين، أدخل إلى مبنى المدرسة المصنوع من مادة "الإسبست" المسقوف بـ(الزينكو) والذي يشبه معتقلات الإتحاد السوفيتي السابق، أدخل غرفة الصف، المقاعد مهترئة وتفوح منها رائحة العراقة والتاريخ، مما يضطرني لتصحيح اعتقادي بأن عهد المدرسة عائد إلى روسيا القيصرية وليس إلى جمهورية الإتحاد، أجلس على مقعد أيل للسقوط، يتقاسم المقعد معي ولد شاحب الوجه، أصفر البشرة، وعلى ما يبدو أنه مصاب بكل الأمراض السارية والمزمنة، الأمر الذي يذكرني بمعاناة شعوب الدول الشمولية، ولكن خيالي الطفولي يحاول إقناعي أن هذة المدرسة القائمة من عهد روسيا القيصرية حتى اليوم، جلس على مقاعدها كل الأدباء الذين تعلقت بهم في طفولتي، كل نجوم الأدب الروسي مروا من هنا، القديم منهم والمعاصر، ... ثم أدخل في نوبة من الضحك سرعان ما تتحول إلى هستيريا عندما أتخيلهم في مثل عمري يرتدون الزي المدرسي الأزرق، ولم تنبت لحاهم التي صارت طويلة وعظيمة فيما بعد
قه .. قه .. قه .. قه
ولكن أفعة بيضاء تسقط على ظهري أثناء قهقهتي تسلخ جلدي عن عظمي، ولم تكن تلك الأفعى إلا عصا أستاذ التاريخ الذي لفها بـ"تب" أبيض حتى تزداد فاعليتها، وياألهي الرحيم ... ما أفطع هذا الأستاذ، ضخم ومظهره قميء، أنه الـ(الغول)، نعم أستاذ التاريخ (غول) حقيقي، أخيرا رأيت الغول على أرض الواقع، لهذا ألتزم الصمت طوال المرحلة الإعدادية خشية مواجهة غير متكافئة مع ذلك الأستاذ المرعب كي لا يقوم بترقيص أفعته البيضاء فوق جسدي ... حتى الأنفاس، كنت أحسب لها ألف حساب


كبرت ... وكبر خوفي معي، بل كبر هذا الشرطي الذي في داخلي، ولكني عبرت المرحلتين الإعدادية والثانوية بسلام وهدوء مفرطين، لألتحق بعدها بالجامعة، وفي بلادنا التي تعج بالأحداث السياسية، لا بد لك من اتجاه تتبنى معتقداته، فمرة تجدني مع الأخوان، ومرة تجدني مع اليسارين، ومرة مع الليبراليين، ولكن قلبي استقر عند اليساريين، قلبي وليس عقلي، ذلك أن اليساريات كن جميلات و(فايعات)، وقد كنت أذهب بمعيتهن إلى المقاهي لنقاش آخر تطورات الثورات القائمة في كل نواحي العالم، ولكن زمن النراجيل والنقاشات لم يلبث حتى ولى مبكرا، وذلك تحت تهديدات والدي بمنعي من كافة حقوقي المالية إن لم أمتنع عن هذه الرفقة، فقد قال لي أن مصير أي إنسان عربي مهتم بالسياسة أن يرسل إلى (بيت خالتو)، ولم أفهم قصد أبي يومئذ فخالتي إمرأة طيبة تروقني، ولكني بعد ذلك فهمت هذا المجاز عندما رأيت أحد الرفاق وقد تورمت عيناه بسبب (التبكيس) الذي قوبل به في بيت خالته، لذلك ... خطبت في أصدقائي اليسارين خطبة رنانة أبرر فيها انسحابي، وقفت على الكرسي وقلت لهم " أترككم اليوم بجسدي وقد تركت روحي عندكم"، وأقنعتهم بأني في حاجة لوقفة مع الذات حتى أزيد قناعاتي اليسارية يسارا، وهكذا هربت إلى البيت. حتى أنني قطعت العلاقة بخالتي الطيبة، من باب ( الباب اللي بيجيك منو الريح سدو واستريح) !!


ها قد بلغت من العمر ثلاثين ... ثلاثون عاما من الرعب، حفرها في وجداني وروحي ونفسي وعقلي شخصيات غريبة (الغول) – (العو) – معلمة اللغة العربية السمينة – أستاذ التاريخ – ( خالتو)، وهذا الشرطي الساكن في صار متحكما بكل سكناتي وحركاتي، عندي رهاب من كل شيء ... من كل شيء، حتى في العمل، أتحاشى النظر إلى أي أحد، فالوضع لا يحتمل أن أتعرف شيئا جديدا، فقد سمعت مرة أن هناك (بعبع) آخر في مصر يدعى ( ابو رجل مسلوخة) !! وفي الشارع أمشي (الحيط بالحيط) وأدعوا الله الستر. زوجوني ... زوجوني بإمرأة أشد مني رعبا، فقد تربت مثلي في هذه البلاد، فكان الله في عون أولادنا القادمين، ولكن ولله الحمد فأن الله لم يرزقنا بالأولاد، وذلك في حكمة منه حتى تنتهي تلك السلالة المرعوبة !!


ولما استبد الخوف بي، وصار ظاهرا جليا للجميع، نصحني أحد الأصدقاء بزيارة طبيب نفسي قبل استفحال الحالة، ولكن رفضت بشدة، فزيارة الطبيب النفسي في بلادي تعني أنك مصاب بالجنون، كما أن الطبيب النفسي كان ولا زال موضع التندر في الأفلام والمسلسلات العربية، فقد صورواه لنا برجل عصابي شعره (منكوش وطويل)، وصوته غير منتظم، لا يلبث أن ينخفض حتى يعلوا فجأة !! أنا أضعف من أن أجلس وحدي مع هذا الشخص المريب المرعب في غرفة مغلقة الأبواب والنوافذ !!


لا يؤلم الجرح إلا من به ألم، والأنسان طبيب نفسه، عرفت دائي أخيرا، وعلاجي يكمن في تغير كل معتقداتي، لهذا يجب علي أن أبدأ حياة جديدة من الصفر، يجب أن لا أشاهد أي شيء يتعلق بالماضي المؤلم، يجب أن أهرب من كل ما يحيط بي من مشاهدات وعقليات وخرافات، أنا بحاجة لثورة تغير كتى أتعالج من داء الرعب المزمن. لذلك ... هاجرت وزوجتي إلى السويد في البداية ... تحسنت قليلا، لأن وجوه الناس هناك ليست متجهمة ومرعبة، كما أنه من غير الممكن أن تتشاجر مع أحد بسبب تبادل النظرات مثل ما كان يحدث هنا، حتى أن الناس لا يتبادلون النظرات في الشوارع، ولم أشاهد إمرأة تمشي برفقة ابنتها وقد راحوا ينظرون ويتحدثون بسخرية وتهكم عن فتاة مرت من جانبهما ترتدي بنطالا غريبا، ولكن أمرا ما قد حدث معي كان له الفضل في التعافي التام ... فمرة بينما كنت ماشيا في أحد الأسواق، رأيت تجمعا بشريا هائلا، ولكنني لم أقترب لأنني لا زلت أخاف من التجمعات، فقد كانت ممنوعة في بلدي لأكثر من شخص، ولكن الفضول غلب الرعب هذه المرة، كانت الجماهير الغاضبة تقذف رجلا بالبيض والطماطم، حتى أن أحدى الغاضبات قامت بخلع (زنوبتها) من قدمها ثم قذفتها باتجاه وجهه، وذهب الخيال الواسع بي إلى البعيد، فقد ظننت أن المسألة شخصية، حتى أنني فكرت في الاقتراب من الفتاة لأقول لها أن الأمر لا يستأهل أن تقذفيه بـ(الزنوبة) فلا زلتي صغيرة وألف رجل أفضل من هذا العجوز المهتريء (المكحكح) يتمناك، لكن القصة لم تكن كذلك، فهذا الرجل لم يكن إلا رئيس وزرائهم، وقد غضبوا منه لإقراره قانون ضريبي جديد، في بلداننا كانت الحكومات هي من تكيل علينا (الشباشب) بكافة أنواعها ( زنوبة _ بلاستيك _ مطاط)، أما هنا فالناس هم الذين يكيلون (الشباشب) على الحكومات، أي أن الأمور هنا معكوسة، ومن هذا القياس انطلقت، فالإنسان العادي البسيط هو المرعب هنا، أي أن (الغول) و(العو) وكل تلك الأساطير هي التي تخاف الإنسان، كما أن خالتي لا تمتلك أي بيت هنا، وحتى الشارع لا يقتلع الناس من حياتهم، فالناس هنا تقود وأعصابهم مرتخية، حتى أن رتلا كاملا من السيارات على استعداد للتوقف في حال عبور كلب للشارع، أنا مهما هنا، صرت قيما مرهوب الجانب،


أخيرا... عرفت ما معنى أن تكون أنسانا ... وأخيرا تعافيت ... فأين (الغول) و ( العو)، أين هم ... أنا لا أهاب أحدا. ولأنني تعافيت فقد عدت مأخوذا بالشأن العربي، وعدت لمتابعة برامجي المفضلة التي تتحدث عن الهم العربي، بل أنني من فرط الشجاعة قررت أن لا أنأى بنفسي عن عملية الإصلاح، فقد مللت لعب دور المتفرج، وهكذا أتصلت في برنامج منبر الجزيرة، وقلت فيه خطبة مدوية، ونمت مرتاح البال. في اليوم الذي تلا المكالمة، وبينما كنا نجلس أنا وزوحتي إلى مائدة الإفطار، رحت أحدثها عن خطبتي المدوية في برنامج منبر الجزيرة، وذلك حتى تتعافى هي الأخرى من رعبها، فلا زالت حالتها (الرعبية) سيئة، وأحمد الله أن اللغة السويدية كانت صعبة عليها، وإلا لكانت نقلت معتقداتها الخرافية المرعبة إلى السويديات، معتقدات من مثل ( قلب الشحاطة – عدم قص الأظافر ليلا) وغيرها من الخرافات التي تربت عليها، ولكنها ما أن سمعت بمغامرتي حتى بدأت باللطم على وجهها، لطم ترافق مع صراخ وعويل " انخرب بيتنا ... والله لا يشحططوك ... يا ويلي يا ويلي يا ويلي وياسواد ليلي)، وهنا أضطررت للاعتراف لها بالحقيقة حتى أهدىء من روعها، فقد قلت لها بأني استعملت اسما مستعارا ... (ابو وردة – السويد) ولكن الأمر ازداد سوء عندما قالت : "ماذا ... استعملت اسم أبو لاسم مؤنث كالأسماء التي يسمى بها الثوار أنفسهم ... آآآآآآه ... آآآآآآآه"، وهنا اضطررت الاعتراف بالحقيقة النهائية فقد قلت لها أني استخدمت اسم "ابو علي" كما أني قلت لهم بأني من كندا فصار الاسم (ابوعلي- كندا). نعم أعزائي قراء هذه القصة لا تلوموني لأني كذبت عليكم عندما قلت لكم أني تعافيت تماما من الخوف والرعب ... لا تنظروا إلي هكذا ... فأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، فهل تريدون من أنسان مسكون بالرعب أن يتعافى في يوم وليلة !!


نعم لم أبلغهم عن اسمي الحقيقي ولا عن مكان اقامتي الحقيقي قلت لهم بأني (ابوعلي – كندا) وفي كل ليلة ... كنت استيقظ على صراخ زوجتي التي كانت تقفز من نومها كالمصروعة بسبب الكوابيس التي كانت تباغتها، كوابيس تبعات الخطبة المدوية، ورحت أنا أهدىء من روعها في كل ليلة، وما أصعبها أن تكون رجلا مسكونا بالرعب وتتظاهر بالشجاعة أمام زوجتك الأشد منك رعبا حتى تواسيها، صعب ... صعب ... أن تلعب دور الشجاع وأنت ترضع الخوف طوال حياتك. لم يحدث شيء، ولم أذهب وراء الشمس كما كانت تظن زوجتي، ولكن زوجتي ماتت بسبب القلق والرعب !!


كنت أبكي أمام نعشها ... كنت حزينا على حياتها كبلوها في البداية بـ(الكوفلية)، ثم كبلوها بالخوف، وها هي الأن تكبل في كفن أبيض. مرت أعواما على وفاة زوجتي، والحي أبقى من الميت، لهذا قررت أن استأنف رحلة علاجي من مرض الخوف، الحمد لله فأنا أشعر الأن بأنني تعافيت تماما. ولكني ليلة أمس ... حلمت بالمرحومة زوجتي، وقد علموني أن الأموات عندما يأتوا لأحدهم في المنام، فذلك يعني أنهم يريدون أخذه معهم ... ولكني سرعان ما تذكرت جارنا "ابو صبري" الذي حلم منذ صباه بكافة أموات المسلمين، ولكنه عاش مئة واربعين سنة !!


ولكني خائف ... خائف
http://www.osbo3yatjaber.blogspot.com/